السؤال: متى يُخرج المزكي زكاة الفطر؟
فتوى سماحة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد:
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" يريد صلاة العيد، وعن عكرمة قال: يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته؛ إن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 14 - 15) وروى ابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن هذه الآية فقال: "نزلت في زكاة الفطر" (نيل الأوطار: 195/4).
ولكن الحديث ضعيف الإسناد؛ لأن "كثيرًا" ضعيف جدًا عند أئمة الحديث (بل قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب، وقال ابن حبان: إنه منكر الحديث جدًا، يروي عن أبيه عن جده بنسخة موضوعة؛ لا يحل ذكره في الكتب إلا على جهة التعجب إلا أن الترمذي يصحح له، وذكر الذهبي أن العلماء لا يعتمدون على تصحيح الترمذي لحديثه. انظر: ميزان الاعتدال: 406/3 – 407، وتهذيب التهذيب: 421/8 – 423، والتاريخ الكبير للبخاري: ¼ ص 217، والجرح والتعديل 2/2 ص154، والمستدرك للحاكم: 128/1). كما يوهن من هذا الحديث: أن السورة مكية، وزكاة الفطر إنما شرعت بالمدينة بعد فرضية صيام رمضان وشرعية العيدين، وقد يتأول معنى: "نزلت في زكاة الفطر" أن الآية تدل على ذلك بالعبارة أو الإشارة، لا أن زكاة الفطر سبب لنزولها بالمعنى الاصطلاحي!
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد: "كنا نخرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر، صاعًا من طعام" وظاهره صحة الإخراج في اليوم كله، ولكن الشراح تأولوا بأول اليوم، وهو ما بين صلاة الصبح إلى صلاة العيد، كما في الفتح، وحمل الشافعي التقييد بـ "قبل الصلاة" على الاستحباب، لقوله عليه الصلاة والسلام: "أغنوهم في هذا اليوم" و"اليوم" يصدق على جميع النهار (فتح الباري: 375/3).
ويرى جمهور الفقهاء أن تأخيرها عن الصلاة مكروه؛ لأن المقصود الأول منها إغناء الفقير عن السؤال والطلب في هذا اليوم، فمتى أخرها، فات جزء من اليوم دون أن يتحقق هذا الإغناء (المغني: 67/3). ويرى ابن حزم أن وقتها ينتهي بابيضاض الشمس وحلول وقت صلاة العيد. فالتأخير عنه حرام.
قال: فمن لم يؤدها حتى خرج وقتها، فقد وجبت في ذمته وماله لمن هي له، فهي دين له، وحق من حقوقهم، قد وجب إخراجها من ماله، وحرم عليه إمساكها في ماله، فوجب عليه أداؤها أبدًا، ويسقط بذلك حقهم، ويبقى حق الله في تضييعه الوقت، لا يقدر على جبره إلا بالاستغفار والندامة (المحلى: 143/6).
ومال الشوكاني إلى أن إخراجها قبل الصلاة واجب؛ لحديث ابن عباس: "فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، ومعنى أنها "صدقة من الصدقات": أي ليس لها الثواب الخاص لزكاة الفطر بوصفها قربة لها وقت معلوم، وأما تأخيرها عن يوم العيد، فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق؛ لأنها زكاة واجبة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم، كما في إخراج الصلاة عن وقتها (نيل الأوطار: 195/4).
وقال في "المغني": فإن أخرها عن يوم العيد أثم ولزمه القضاء (وكذا قال الدردير في الشرح الكبير (508/1): ولا تسقط الفطرة بمعنى زمنها لترتبها في الذمة) وحكي عن ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، واتباع السنة أولى (المغني: 67/3).
وأما تقديمها وتعجيلها، فمنع منه ابن حزم ولم يسامح في أدائها قبل طلوع فجر يوم الفطر بيوم ولا أقل، وقال: لا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلاً (المحلى: 143/6، ومذهب ابن حزم هنا هو مذهب الإمامية أيضًا، كما في فقه الإمام جعفر (106/2) حيث لم يجز تقديمها قبل هلال شوال). بناء على رأيه في عدم جواز تعجيل الزكاة مطلقًا، وهو مخالف لما صح عن الصحابة في تعجيلها.
فروى البخاري عن ابن عمر قال: "كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين" والضمير في "كانوا" يرجع إلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم الذين بهم يقتدى فيهتدى، وإلى هذا ذهب أحمد وقال: لا يجوز أكثر من ذلك يعني يومًا أو يومين. وهو المعتمد عند المالكية أيضًا، وأجاز بعضهم التقديم إلى ثلاثة أيام (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 508/1)، وقال بعض الحنابلة: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر.
وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان؛ لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها كزكاة المال بعد ملك النصاب (المغني: 68/3 – 69). وقال أبو حنيفة: يجوز تعجيلها من أول الحول؛ لأنها زكاة، فأشبهت زكاة المال. وعند الزيدية: يجوز تعجيلها ولو إلى عامين كزكاة المال (البحر 196/2). وقول مالك وأحمد أحوط وأقرب إلى تحقيق المقصود، وهو إغناؤهم في يوم العيد بالذات.
والقول بجواز إخراجها من بعد نصف الشهر أيسر على الناس، وخاصة إذا كانت الدولة هي التي تتولى جمع زكاة الفطر. فقد تحتاج إلى زمن لتنظيم جبايتها وتوزيعها على المستحقين. بحيث تشرق شمس العيد وقد وصل إليهم حقهم، فيشعروا بفرحة العيد وبهجته كما يشعر سائر الناس. ومثل ذلك إذا تولت زكاة الفطر مؤسسة أو جمعية إسلامية.