صدقة الفطر في شهر رمضان
مجالس رمضانية مع فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة
الجلسة السابعة والعشرون
صدقة الفطر تسمَّى: زكاة الفطر، وصدقة الفطر، وزكاة البدن، أو زكاة الرأس، أو زكاة الرقبة. فهي لا تتعلق بالمال، بل بذات الإنسان. وسُمِّيت: الفِطرة؛ لأنها تـؤدَّى بعد الفطر من رمضان، أو نسبة إلى الفِطْرة، قال الله تعالى:﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: 30].
• والحكمة من مشروعية زكاة الفطر:
- أولًا: أنها طُهرة للصائم من اللغو والرفث؛ وذلك لأن الصائم لا يخلو أن يقع في صيامه نقص بوجه من الوجوه، ولو أن يلغو في الكلام أو يرفث، أو يقع في غيبة أو فضول كلام أو فضول نظر.
- ثانيًا: أنها طُعمة للمساكين؛ لأنها تخرج في ليلة العيد ويوم العيد، وهو يوم فرح وسـرور واغتـباط، وتوسع في المأكل والمشرب والملبس، ففي إخراج صدقة الفطر في ذلك اليوم إشعار للمساكين والفقراء بانتمائهم للمجـتمع، ومشاركتهم في سرور يوم العيد وفرحه؛ لئلا يأتي علـيهم العـيد وهم جياع يشعرون بالانقباض والحسرة. ولهذا ذهب جمع من الفقهـاء إلى أن صدقة الفطر تُعطى للفقراء والمساكين، ولا تصرف لغيرهم من الأصناف الثمانية، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.
- ثالثًا: أن في صدقة الفطر تعويدًا لأفراد المجتمع على المشاركة والعطاء؛ ولذا كانـت الصدقة متعلِّقة بالإنسان، ولو لم يكن غنيًّا، فإنه يتصدق.
• أما عن حكمها:
فقد ذكر ابن المـنذر إجماع الفقهاء على وجوب صدقة الفطر، ونقل البيهقيُّ إجماع الفقهاء على وجوبها، وقال إسحاق بن راهويه: هو كالإجماع. وذلك لأدلة منها:
- أولًا: قـول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14-15] ، وقد رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها نزلت في زكاة الفطر.
- ثانيًا: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين». والفرض صريح في الإيجاب والإلزام.
وتجب زكاة الفطر مع القـدرة، ولا يشترط فيها أن يملك نصابًا؛ بل يكفي أن يكون عنده فضلٌ عن قوته وقوت مَن يَمُونه يوم العيد وليلته. والواجب صاع عند أكثر الفقهـاء، ومقدار الصاع: أربعـة أمداد، والمد يساوي حفنة بيدي الإنسان المتوسط المعتدل. ومقدار الصاع بالغرامات يساوي ألفين ومائة وستين جرامًا من البر تقريبًا.
• أما الأصناف التي تخرج منها:
ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدِّم: «فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شَعِير، على العبد والحرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنا نُخْرِجُ زكاةَ الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شَعِير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أَقِط، أو صاعًا من زَبِيب».
هذا هو المنصوص عليه، وجمهور العلماء من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين على أنه لا يلزم الاقتصار على هذه الأصناف، فيجوز أن تُخرج من غالب قوت الـبلد؛ كالأرز وغيره. والجمهور على أنه لا يجزئ إخراج القيمة، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد. وأبو حنيفة يذهب إلى جواز إخراج القيمة في صدقة الفطر. وهذا القول ثابت عن عمر بن عبد العزيز، وجاء عن الحسن البصري أنه قال: «لا بأس أن تُعطى الدراهم في صدقة الفطر». وقال أبو إسحاق السَّبِيعي: «أدركتهم وهم يُعطـون في صـدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام».
وهذا مذهب الثوري وعطاء؛ فـإن عطـاءً كـان يعطي في صدقة الفطر الورِق، أي: الفضة، وهؤلاء من سادة الـتابعين. وممن قـوى هـذا الأمر ونصره من المتأخرين الشيخ مصطفى الزرقا.
ومن الأوجه التي يتعزَّز بها هذا القول ما يلي:
- الوجه الأول: أن كثيرًا من الفقهاء يرون أنه يخرج من قوت البلد غير المنصوص في حديث أبي سعيد وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، فإذا تغيَّر القوت جاز أن يُخرج من القوت الموجود كالأرز أو القمح، أو أي قوت ينتشر في بلـد من البلدان، وإذا جاز إخراجها من قوت البلد حتى ولو لم يكن منصوصًا ولا واردًا في السـنة، فمن باب أولى أن تُخرج من الدراهم؛ لأنها قد تكون أفضل من القوت لكثير من الناس، وهذا منهم مصير إلى القيمة والتقييم؛ لأنهم قوّموا ما كان قوتًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجوا بدله.
- الوجـه الثاني: أن الأمر في هذه الأشياء ليس تعبديًّا محضًا لا يجوز الخروج عنه إلى غـيره، وإنمـا هـو أمر مصلحي واضح، أي أن المقصود من صدقة الفطر منفعة الآخذ، وإخراج القيمة - خصوصًا إذا طابت بها نفس المُعطِي ونفس الآخذ وأنه أحب إليهما معًا - يحقِّـق مقصـد الشـرع في التوسـعة على الناس، وفي تطهيرهم، وفيما فيه تحقيق مصالحهم، وليس فيه ما يعارض نصًّا ظاهرًا.
- الوجـه الثالث: أن الفقهاء اختلفوا في إخراج زكاة عُروض التجارة من العُروض ذاتها أو من النقد، وفي المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يجوز إخراجها من العُروض أو من النقد.
الثاني: أنه يخرجها نقدًا ولا بد.
الثالث: أنه يجب عليه إخراجها من العُروض.
فالقول الأول فيه تخيير بين النقد وبين إخراجها من نفس العُروض، والأفضل هو الأحظُّ للفقراء، فلو علم أن الفقير سوف يشتري بهذا المال عُروضًا؛ كان الأفضل أن يعطيه عُروضـًا، حـتى يوفِّر عليه القيمة وتعب الشراء، وإن علم أنه متى أعطى الفقير عروضـًا باعه وربما نقصت قيمته، فالأولى في هذه الحال أن يعطيه مالًا، وكذلك إذا علم أن الفقير لا يحسن التصرف، لسفهٍ أو حمق، أو قد يكون عنده معصية فيستخدم المال في غـير مـا أحله الله؛ فيكون الأفضل أن يعطيه عُروضًا حتى يستخدمها فيما هي له، وقد رجَّح ابن تيمية أنه إذا كان ثمَّةَ حاجة ومصلحة، فإنه يجوز إخراج النقد عن العُروض.
فـإذا كـان هذا في زكاة المال، وهي ركن من أركان الإسلام، وفرض بالاتفـاق، ووجوبها أظهر وأمرها آكد؛ فأن يكون سائغًا في زكاة الفطر من باب أولى. والمسألة من فروع الفقه التي يختلف فيها أهل العلم، والمقصود عدم التشديد في المسألة، وأن الخلاف فيها سائغ ومنقول، ومنذ عهود السلف كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو والٍ وخليفة يأمر رعيته بإخراجها نقدًا.
• أما عن وقت وجوبها:
فهي تجب بالفطر من رمضان؛ ولذا سمِّيت: زكاة الفطر، من باب نسبتها إلى سـببها، وقـد ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومالك في رواية عنه إلى أنها تجب بغـروب الشمس من ليلة العيد، بينما ذهب أبو حنيفة إلى أنها تجب بطلوع الفجر يوم العيد.
• لمَن تُعطى صدقة الفطر؟
للعلماء في هذه المسألة قولان:
- الأول: أنها تخرج للأصناف الثمانية، وهذا مذهب الجمهور؛ بل قال الشافعية: يجب تقسيمها على الأصناف الثمانية.
- الثـاني: أنها خاصة بالفقراء والمساكين، وهو قول الحنابلة، واختيار ابن تيمية، وابن القـيم، وهـو أولى وأوجـه؛ وذلك للنص؛ لأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: «... وطُعمة للمساكين». ولأنها صدقة على البدن، فليس فيها سُعاة، ولا علاقة لها بالغارمين ولا بغير ذلك، مما يدل على أن مصرفها ليس هـو مصـرف الزكاة المعروفة -زكاة المال- فالأولى أن يُقتصر في إخراجها على الفقراء والمساكين.
• عمَّن تخرج صدقة الفطر؟
في قول الجمهور أنه يؤدِّيها أولًا عن نفسه، ثم عمَّـن يَمُونُه، فيخرجها عن زوجته وعن ولده وعن والده إذا كـان فقـيرًا تلزمه نفقته؛ لأن الفطرة عندهم تابعة للنفقة.
أما الجنين، فلا تجب عليه صدقة الفطر؛ لكن يُستحب إخراجها عنه، خصوصًا إذا كان قد نُفخت فيه الروح، وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يخرجها عنه، ونُقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنها ليست واجبة عليه.
ووقت وجوبها قبل خروج الناس إلى الصلاة؛ لحديـث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدِّم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدِّم أيضًا، وفيه: «مَن أدَّاها قبل الصلاة، فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَن أداها بعد الصلاة، فهي صدقةٌ من الصدقات».
ولهذا فإن إخراجها بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد إخراج لها في مكانها الصحيح باتفاقهم، وهو مجزئ.
ويجـوز أن يُخرجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهذا نص عليه ابن عمر رضي الله عنهما في رواية من حديثه. وقال بعضهم: إنه لو أخرجها قبل ذلك بثلاثة أيام إلى نصف شهر أجزأت. وقال بعضهم: من بداية الشهر. ولأن هذا قريب من العيد، وقد يكـون في تحديـد الوقت مشقة على الناس، والفقير إذا جاءته في مثل هذا الوقت سـيحتفظ بهـا إلى وقت العيد، أو قد تكفيه إلى يوم العيد. أما ما بعد العيد، فلو أخرجها بعد الصلاة، فعند الحنابلة تجزيء مع الكراهة، ومذهب الجمهور أنه يجوز إخراجها في يوم العيد ولو بعد الصلاة بلا كراهة. ومن الأدلة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدِّم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تُؤَدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة يوم الفطر. وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدِّم أيضًا: «كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر...» الحديث.
وهذا دليل على أن اليوم كله محل للإخراج، فلو أخرجها بعد الصلاة لكان مكروهًا عند الحـنابلة، لكـنه مجـزئ عند البقية، أما لو أخَّرها بعد يوم العيد، فهي صدقة من الصدقات.
وهناك قـول بأنها لا تجزئ بعد الصلاة، وإنما يخرجها قبل الصلاة، واليوم ينتهي بغروب الشمس؛ لقـول ابن عمر رضي الله عنهما في حديثه المتقدِّم: «وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين».: «وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين».