القدس: عظَمة الصِّغار وصَغار الكبار
بقلم: أ. د. عبدالرزاق قسوم
عضو مجلس أمناء الاتحاد
إن ما يكتبه شبان وشابات بيت المقدس، بدمائهم ودموعهم، وبتحديات أجسادهم، دفاعا عن القدس، لهو درس بليغ مطلوب أن يقرأه الجميع بقلب واع، وعقل مفتوح.
إنها المعادلة التي ترسمها، ملحمة المرابطين والمرابطات في الحرم المقدسي، والتي عجز عن فكها سماسرة السياسة في العالم، وأباطرة النخاسة في عالمنا العربي المتردي.
فهل أتاكم خبر هولاكو العصر، ممثلا في الجيش الصهيوني المتوحش، الذي جمع العدة والعتاد ليشن الحرب على العزل من المصلين والمصليات، فيفسد عليهم صلاتهم وخشوعهم، ويشتت تجمعاتهم، ويكسر ضلوعهم، ويبدد طاقاتهم، ويسيل دماءهم ودموعهم.
فما ذنب المقدسيين في هذه الحرب العدوانية التي تشن عليهم، إلا أن يقولوا ربنا الله، وفلسطين وطننا، والإسلام ديننا؟
لقد أثبت المقدسيون بالشجاعة والمقاومة عظمة الصغار، وكشفوا عورات الكبار من المتعاملين مع الأشرار محتلي الحقول والديار.
كما لقنوا العالم أجمع أن مواصفات الصغار والكبار، قد أعيد تحديدها، فقد كبر الصغير المؤمن بحقه الشرعي والمستميت في الدفاع عن حماه المرعي، وصغُر الكبير المتخاذل، البائع للأرض، المساوم على العرض، والمفرّط في أداء الفرض.
فتبارك الذي شد على أيدي المرابطين والمرابطات، فوهبهم رباطة الصدر، وهزم بهم طغاة الغدر والقهر، وحقق بهم روائع البطولة والنصر.
ونلتفت يمنة ويسرة، فنتساءل: أين جيوشنا العربية مما يحدث في ساحات الوغى، وكل ما يدور تهديدا لأمنهم، وتهويدا لوكرهم، وتنديدا بفكرهم ومكرهم؟
وأين هم دعاة حقوق الإنسان المزعومين الذين طالما صموا أذاننا بالشعارات الجوفاء، وملأوا الدنيا بالبيانات الخرقاء؟
فهل هان الدم الفلسطيني إلى هذا المستوى من الهوان؟ وهل دان الجميع للصهيوني الرعديد الجبان؟
وأين هي قضية الجماهير الإسلامية، مما يحدث في قبلتهم الأولى، ومسرى نبيهم الطولي؟
ألا يملكون سلاح المقاطعة للبضائع والودائع، ومد المقدسيين بالزاد والعتاد، ومما أمكن من ثمن البنادق والمدافع؟
ألم يحن الوقت لتوبة حكامنا من جريمة التطبيع بحقنا وأرضنا، والكف عن الاستبداد بشعبنا وقدسنا؟
إن ما يجب أن يدركه الجميع، هو أن قوة العدو الصهيوني من ضعفنا، وأن غطرسته إنما جاءت من تخاذلنا، وجبننا.
ذلك أن من علامات قيام الساعة، أن يقدم الصهيوني متصرفا، أو متطرفا، على مقارعة أصحاب الحق في أرضهم، والتهديد بمنازلتهم ومنعهم من أداء فرضهم.
وما كان لهذا الصهيوني الرعديد أن يجرؤ على ذلك، لولا صمت مريع من بعض قادتنا، وشتات شنيع من بعض سادتنا، وقمع فضيع، نازل على أهل الحل والعقد من علماء ريادتنا.
إن سلسلة الهزائم النفسية، قبل العسكرية، تمتد وتطول في تاريخنا، وليس ذلك من شح في إمكانياتنا، ولا من جبن في محاربينا ومقاوماتنا، وإنما حدث ذلك لخلل في جبهاتنا، وتخاذل من قيادتنا، واضطراب في سياساتنا.
وبالرغم من كل ذلك، لم يعرف البأس إلى صفوفنا طريقا، ولا دب بيننا، أي سبب من شأنه أن يزرع الانهزامية فينا، فشبابنا وشاباتنا في فلسطين، وفي غزة، والقدس كبروا في مقامهم ومقاومتهم، رغم صغر سنهم، والسنان التي توجه إلى نحورهم وظهورهم.
وبالمقابل، فقد حكمت ملحمة القدس بالصَّغار على بعض قادة أمتنا، فأسقطت أقنعتهم، وكشفت سوءتهم، وأفشلت خطتهم، إذ بينت هذه الملحمة، أن الأعداء الصهاينة، لا يرقبون في الفلسطينيين إلاًّ ولا ذمة، وكلما عاهدوا عهدا، نبذه فريق منهم.
فلا تطبيع إذن، ولا معاهدات، ولا اتفاقيات، فقد سقطت على صخرة ملحمة القدس، وغزة، معاهدات مدريد، ومعاهدات أوصلو، وكل أنواع التطبيع، ولم ولن ينفع، إلا التشبث بالحق الفلسطيني الثابت، وهو إقامة الدولة الفلسطينية على كامل أراضيها وعاصمتها القدس الشريف.
لذا فإننا من وحي الدماء والدموع التي تسيل في غزة والقدس، نناشد الجميع، العودة إلى هذا الطريق الصحيح طريق الشرعية، والحقوق الثابتة المرعية.
ونبدأ بالإخوة الفلسطينيين أن يرتفعوا إلى مستوى التضحيات التي يقدمها أبناؤهم وبناتهم في ساحات غزة، وفي رحاب القدس الشريف، فيعيدوا وحدة الصف، ويؤكدوا من جديد قدسية الهدف، فليس كالوحدة الوطنية، سبيلا أنجع لتحقيق النصر، وإفشال مخططات التآمر، والكيد والغدر.
إن النصر في فلسطين قد لاحت بشائره، وأن ما يجود به المرابطون والمرابطات من تضحيات، لهو الدرس العالي والغالي، فليحسن الجميع الإصغاء لهذا الدرس، فقد انطلقت قوافل النصر، والويل للمتخاذلين والمتخلفين عن المسيرة!