البحث

التفاصيل

فقه القرآن "سورة البلد (1)"

الرابط المختصر :

فقه القرآن "سورة البلد (1)"

بقلم: د. فضل مراد

 

المكابدة وإمكانات المواجهة..

غرور الثروة..

عقبات العطاء ... من يتجاوزها؟

المرحمة وبعدها البلاغي وأثرها التكليفي..

هذه مركزيات ما تحويه سورة البلد التي بدأت بأقسام ثلاثة لتأكيد هذه القضايا المركزية..

 

بسم الله الرحمن الرحيم (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4).

البلد مكة – «وأنت حل بهذا البلد» بمعانيها الأربعة

"قسما بهذا البلد" الذي أنت مقيم فيه...

و "حل" دمك ، والتي ستحل لك يوم الفتح .. وهذا البلد كذلك الذي أنت حل فيه من الذنوب غير مرتكب لأي ذنب فيه. هذه هي الأربعة المعاني لمعنى «حل» عند أهل العلم بالتفسير.

وهذا من إعجاز القرآن أن كلمة واحدة تحتوي على كل هذا.

فأقسم الله بمكة البلد الحرام وبالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بأحواله المختلفة الحالية والمستقبلية.

قسم ثالث «ووالد وما ولد»

على قول ابن عباس والطبري أنه يعم كل والد وكل مولود.

ففيه تنبيه على حق الوالد وحق الولد؛ لأن لكل حقوقا.

لأن القسم بالشيء اهتمام به وتنويه بتشريفه في الجملة.

 

القضية الأولى: المكابدة وإمكانات المواجهة (لقد خلقنا الانسان في كبد)

نعم .. ىإن متاعب الحياة ومكابدتها أمر من تركيبة هذه الدنيا.

في كل مراحلها وعلى الإنسان الصبر على هذه الحياة وعدم الجزع؛ لأن طبيعة خلقها هكذا.

وانظر إلى معاني «الكبد» التي تعطي جملة باسقة متشعبة ترحل بالخيال في كل فج عميق.

ودعوني أطل على جملة من هذه المكابدات الحياتية:

إن رحلة المكابدة تعلن افتتاحيتها صرخات البكاء إثر الولادة

إنه بكاء في أول لحظات المشوار في هذه الحياة الإبتلائية المليئة بالمنغصات والأفراح في آن واحد.

وكلا الطريقين لازم أن يمس كل إنسان ، حتى الأفراح والنجاحات في هذه الحياة لا تنال إلا بالكبد والمكابدة ، إنها إذا  دار عمل وابتلاء بأشكاله وألونه العديدة.

لذلك كانت المكابدة محيطة به كإحاطة الظرف بالمظروف لهذا جاء اللفظ القرآني بحرف (في كبد) ليفيد كينونة هذا المخلوق بداخل الكبد والصراع.

ويفيد إحاطته به من كل جانب.

ولأجل هذا الوضع أمده بإمكانات المواجهة والتعامل مع أنواع الظروف لتجاوزها وتحقيق مقصد التكليف الابتلائي من خلالها: أعظمها "وهديناه النجدين" كما سيأتي بعد قليل في الآيات.

القضية الثانية: غرور القوة والثروة

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10).

إن المال والقوة يعطيان الشخص معنى ضافيا من النزعة الاستعلائية في منطقه ونظراته وشعوره وتصرفاته وعلاقاته بالحياة وبالآخرين وقد تأخذ هذه في التضخم يوما بعد آخر إن لم توجد كوابح الإيمان التي تمنع الوصول إلى هذه النزعة وتحاربها في مهدها.

إن هذا التضخم سيوصله ولا شك إلى ظنون وأوهام عن مدى قوته وعلوه الذي لا يقدر عليه أحد.

 

ومن ثم جاء هذا النص ليعالج هذا المريض ويردعه ويرده إلى صوابية الجادة «أيحسب أن لن يقدر عليه أحد».

هكذا وصل به الأمر حتى انغرس في حسبانه أنه خارج دائرة الضعف.

إنها حسابات ومكاييل ظنون خاطئة وأوهام فاسدة أوصلته إلى هذا.

وانظر إلى «لن» التي تفيد النفي والاستقبال في النفي المؤكد المؤبد في دائرة الزمن، وهكذا تقديم الجار والمجرور «عليه» الذي يفيد زيادة في الإيماء بالأوثقية.

«لن يقدر عليه أحد» مهما كان، وهذا عام لكل واحد. إنه غرور كبير وحسب. ثم عقب بغرور القول بعد غرور وبذخ الاعتقادات.

«يقول أهلكت مالاً لبداً». انظر كيف يفتخر ويزهو بكثرة لعبه بالمال وطغيانه به. حتى لم يقل أنفقت.. بل أهلكت. ليعطي اللامبالاة بهذا المال ومنافعه.

إنه إهلاك للمال وتبذير به وبغي وخيلاء وبطر... إلى آخر ألقاب الذم.

ويستنبط من النص تحريم هذا الأسلوب مع المال لأن الله أورده مورد الذم.

إن الله جعل هذا المال لعمارة الحياة وإصلاحها والقيام بحقوق الاستخلاف.. أما أن يوظف للانحراف وصناعة الأزمات وبناء امبراطوريات البغي والهيمنة فهذا مرفوض مرفوض.

إن الإنسان إذا وصل إلى هذه الحالة الشعورية التي وصفها الله «أيحسب أن لن يقدر عليه أحد». ماذا تظنون أنه صانع بالمجتمع، بالإنسان، بالحياة؟؟

هل سيصنع السلام والخير والمحبة، أم سيغذي الصراع ويختلق المشاكل ويسعى ليكون بلا ند أو منازع لنزواته وحسبانياته اللامحدودة.

إنها هلوسة العظمة فعلا .. وأول رد على هذا المهووس هو الاستفهام التقريعي التوبيخي «أيحسب أن لن يقدر عليه أحد.. أيحسب ألم يره أحد».

بلى إننا قادرون عليه وعلى إسكاته.. إنه في دائرة الرؤية والمراقبة.

إن الله هو من أمده بهذه القوى المبصرة والتي لولاها لما كان شيئا «ألم نجعل له عينين». وقوى التعبير «ولسانا».

ولمحة من الجمال الضروري «وشفتين» وإلا لكان كأبشع مخلوق.

إن هذا النص فيه تشكيلة بلاغية عجيبة ففي حين يصف حال هذا المعتوه المغرور الذي أهلك المال في المهلكات ، بمدى السقف المرتفع لغرورة .. يخبره في نفس الوقت مقرعا وموبخا له أنه أعجز من ذلك وأدنى أن يلتفت له.

إنه تحت القدرة الإلهية والرقابة الإلهية والسلطان المطلق الذي يتحكم في سير هذا الكون وذراته ويعلم مستقرها ومستودعها.


: الأوسمة



التالي
الاتحاد ينعي الشيخ الدكتور سالم العدالي عضو الاتحاد رحمه الله
السابق
فلسطين الأبية في مواجهة غطرسة الصهاينة ونكبة الأنظمة العربية

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع