حلاوة الثواب ومرارة الألم
أ. د. يوسف القرضاوي
رجاء مثوبة الله تعالى على ما يبتلى به الإنسان في دنياه نعمة روحية أخرى؛ تهون على الإنسان البلاء، وهذه المثوبة تتمثل في تكفير السيئات، وما أكثرها!! وزيادة الحسنات، وما أحوج الإنسان إليها!! وفي الحديث الصحيح: "ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". أصاب أحد الصالحين شيء في قدمه فلم يتوجع ولم يتأوه، بل ابتسم واسترجع، فقيل له: يصيبك هذا ولا تتوجع؟ فقال: إن حلاوة ثوابه أنستني مرارة وجعه!
الحياة لا تخلو من الشدائد
"عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" (حديث شريف رواه مسلم). الأمل والأمن، والرضا والحب، والسكينة النفسية، ثمار شهية لغراس العقيدة في نفس المؤمن، وذخائر لا تنفد لإمداده في معركة الحياة، وأنها لمعركة طويلة الأمد، كثيرة التكاليف، محفوفة بالأخطار والمشقات.
ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا وطبيعة البشر فيها؛ تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه وشدائد تحل بساحته، فكم يخفق له عمل أو يخيب له أمل، أو يموت له حبيب، أو يمرض له بدن، أو يفقد منه مال، أو .. أو .. إلى آخر ما يفيض به نهر الحياة.. حتى قال الشاعر يصف الدنيا: جبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الآلام والأكدار! ومكلف الأيام ضد طباعهـا متطلب في الماء جذوة نـار
وإذا كان هذا سنة الله في الحياة عامة وفى الناس كافة، فإن أصحاب الرسالات خاصة أشد تعرضاً لنكبات الدنيا وويلاتها، إنهم يدعون إلى الله فيحاربهم دعاة الطاغوت، وينادون بالحق فيقاومهم أنصار الباطل، ويهدون إلى الخير فيعاديهم أنصار الشر، ويأمرون بالمعروف فيخاصمهم أهل المنكر؛ وبهذا يحيون في دوامة من المحن، وسلسلة من المؤامرات والفتن، سنة الله الذي خلق آدم وإبليس، وإبراهيم ونمرود، وموسى وفرعون، ومحمداً وأبا جهل (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) (الأنعام: 112) (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين) (الفرقان: 31).
هذا شأن الأنبياء، وشأن ورثتهم والسائرين على دربهم والداعين بدعوتهم مع الطغاة الصادين عن سبيل الله (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) (البروج: 8). سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح).
الملحدون أشد الناس جزعاً
وقد أثبت الاستقراء والمشاهدة أن أشد الناس جزعاً وأسرعهم انهياراً أمام شدائد الحياة هم الملحدون والمرتابون وضعاف الإيمان، وقد وصف القرآن هذا النموذج من الناس فقال: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور) (هود: 9)، (وإن مسه الشر فيؤس قنوط) (فصلت: 49)، (وإذا مسه الشر كان يؤساً) (الإسراء: 83)، (ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين) (الحج: 11).
إنهم لا يؤمنون بقدر فيرضوا به، ولا بإله فيطمئنوا إلى حكمته في خلقه، ولا بأنبياء فيجدوا في حياتهم القاسية قدوة وعبرة، ولا بحياة أخرى فتهب عليهم نسماتها منعشة للنفس، وطاردة للكآبة، باعثة للأمل. إنهم كسفينة فقدت الدفة والشراع وكل عوامل الثبات أمام الأمواج والعواصف، فهي لأدنى حركة من الريح يشتد اهتزازها وتمايلها، ويحيط بها الموج من كل مكان، وسرعان ما تغوص إلى الأعماق!
ولا غرو أن نجد الانتحار أكثر ما يكون في البيئات التي ضعف دينها أو فقدته، فإن لم يكن الانتحار فهو الألم القاتل، والجزع الهالع، والكآبة الحزينة، والحزن الكئيب، والحياة التي خلت من معنى الحياة. ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء! إنما الميت من يعيش كئيبـاً كاسفاً باله قليل الرجاء!
..................
* من كتاب "الإيمان والحياة" لفضيلة العلامة.