تقديم كتاب: إبراهيم عليه السلام
بقلم: أ.د. علي محييى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المســلمين
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين، وصحبه اجمعين، ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد،،
فقد خصّ الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه السلام بميزات عظيمة من أهمها أنه أمر الرسول الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي هو وأمته به في آيتين عظيمتين فقال تعالى: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) سورة الممتحنة "4"، ثم أكد على أن هذه القدوة شاملة فقال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) سورة الممتحنة "6".
إن مما لا شك فيه أن هذا التخصص لسيدنا إبراهيم عليه السلام بهذه الأسوة والقدوة ليحمل دلالات كبرى، وإشارات وإضاءات عظمى، من أهمها:
أولاً: إن منهاج سيدنا إبراهيم عليه السلام في إثبات العقيدة والتوحيد منهاج خالد منسجم مع الفطرة السليمة والبراهين القوية، والحجج القويمة، وهو نفسه منهاج الحبيب المصطفى، وأن دينه قائم على الفطرة والحجج والبراهين.
ثانياً: وإن منهاج سيدنا إبراهيم عليه السلام كان يقوم على الرحمة بأمته، بل بالناس أجمعين ، وعلى اليسر والتبشير فقال تعالى حكاية عنه: ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) سورة إبراهيم " 36 "، وهو أيضاً المنهج الذي اتبعه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ففي غزوة بدر وحول ما هو مطلوب من التصرف مع أسرى قريش، استشار صحابته رضي الله عنهم فأشار عليه عمر رضي الله عنه بقتلهم جميعاً، وأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بعفوهم مع الفداء، فاختار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم منهج سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو العفو والفداء، والرحمة والبناء، ثم شبه أبي بكر بسيدنا إبراهيم عليه السلام فقال: " إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام .."[1].
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حصر الله رسالته في الرحمة بالعالمين وجعل شريعته قائمة على اليسر ورفع الحرج فقال تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) سورة البقرة "185"، وكذلك كانت شريعة إبراهيم عليه السلام بصورة عامة.
الكتاب سيرة ومسيرة
إن هذا الكتاب الذي نقدمه للباحثين والقراء الكرام يكمن شرفه وأهميته في موضوعه الذي يبحث فيه، ( وقد قيل: إن شرف العلم بشرف موضوعه ) وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي وصفه الله تعالى بأنه أمة فقال تعالى: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) سورة النحل " 120-121 "، وقد جعله الله تعالى قدوة للمؤمنين، وإماماً للناس أجمعين فقال تعالى: ( ...إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) سورة البقرة " 124 "، كما أنه خليل الله تعالى الذي أتاه حجته فقال تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) سورة الأنعام " 83 "، وغير ذلك.
فقد استطاع مؤلفه فضيلة أخي الدكتور علي الصلابي بعلمه وخبرته، ودقته أن يكشف الستار عن خلاصة تأريخ الأنبياء والمرسلين " عليهم السلام " من خلال بحثه عن أبي الأنبياء حيث أفاض وأفاد، وأطال النفس في استخراج العبر والقدوة، مؤكداً على سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام في موكب الأنبياء والمرسلين، وما ذكره القرآن الكريم حوله في عدة سور وآيات، وحواراته مع والده وأولاده، وقومه، ومع الملائكة، والملوك، وغير ذلك.
ومما امتاز به الكتاب الجانب التربوي، حيث إنه قد استخرج واستنبط مجموعة من العبر، والحكم، والأحكام، وسنن الله تعالى في الهداية والضلالة، والنجاة والنصر والهلاك والابتلاء، وفي تربية الأولاد حيث إن إبراهيم عليه السلام كان ناجحاً في تربية ولديه نجاحاً عظيماً حتى جعلهما من الأنبياء، وفي تربية أحفاده، ووصيته لهم، حتى جعل منهم عدداً كبيراً أنبياء، ومرسلين، بل أصبح حقاً أبا الأنبياء والمرسلين.
وكذلك ما استخرجه المؤلف من صحف إبراهيم من بيان الدين الحنيفي ( الإسلام ) والحلم، والتَأوّه، والإنابة والشكر والدعاء، والقنوت، وسلامة القلب، وعمارة بيت الحرام، وإكرام الضيف وغير ذلك.
فالكتاب يعد بحق موسوعة علمية تربوية تأريخية لا يستغنى عنه باحث عن الحقائق الخاصة بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
ومما يزيده أهمية ويزدان به هو أنه نهل معظم معلوماته عن كتاب الله الكريم الذي ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) سورة فصلت " 42 "، ومن سنة نبيه الكريم الذي ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) سورة النجم " 3-4 ".
ولا يسعنا إلا أن نتضرع إلى الله تعالى بأن يتقبل من أخينا الباحث المفسر المؤرخ الدكتور علي الصلابي هذا السفر العظيم حول أعظم الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يوفقه لمزيد من الخيرات و البركات آمين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د علي محيي الدين القره داغي
27 شوال 1442ه
[1] رواه مسلم في صحيحه الحديث 1762، ويراجع شرحه للنووي (12/ 86-87)