الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، إمام المتقين، وخاتم النبيئين والمرسلين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحلقة الخامسة من مقامات إيمانية:
د. عبد الكامل أوزال ــ عضو الاتحاد
مقام التزكية
التزكيـــــــــة:
التزكية مصطلح تربوي مركزي في القرآن الكريم، وهو مأخوذ من الفعل الثلاثي زكا. ومادة (زكو) التي أخذ منها هذا المصطلح تدل على معنى الصلاح والتقوى، «تقول: رجل زكِيّ تقِيّ، ورجال أزكياء أتقياء» ( كما يدل لفظ (زكا) على معنيين أصليين هما النماء والطهارة (. وعند الراغب الأصفهاني يتضمن لفظ (زكا) مستويات مختلفة، تبدأ بتحري الإنسان ما يمكِّنه من تطهير نفسه نحو قوله تعالى : ﴿قد أفلح من زكاها﴾ الشمس : 9، وتنتهي بما يطبعه الله تعالى في بعض خلقه لا بالتعلم والممارسة، ولكن بالاجتباء والتوفيق الإلهي، كما هو الشأن عند الأنبياء والرسل عليهم السلام، نحو قوله تعالى : ﴿لاهب لك غلاما زكيا﴾ مريم : 18، أي مُزكّى بالخِلقة، ومرورا بما هو مخصوص بالله تعالى جلّ شأنه العالم بسرائر العباد، حيث نهى سبحانه وتعالى عن تزكية الإنسان نفسه ومدحها لأنه فعل مذموم وقبيح. يقول تعالى : ﴿بل الله يزكي من يشاء﴾ النساء : 48، ويقول أيضا : ﴿فلا تزكوا أنفسكم﴾ النجم : 31.بالإضافة إلى انتساب فعل التزكية إلى النبي ﷺ، من حيث كونُه الوسيلة التي تمكِّن العباد من التطهير والترقِّي في معراج التزكية. يقول تعالى: ﴿يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم﴾ البقرة:150، ويقول أيضا: ﴿تطهرهم وتزكيهم بها﴾ التوبة:104
وإجمالا نقول إن مصطلح التزكية في القرآن الكريم يدل على مقصد من مقاصد الوحي الرباني المتمثل في كون فعل التزكية مُنصبّا على النفس الإنسانية، لأنها تحتاج إلى مُنقذٍ يوصلها إلى بر الأمان من خلال «تطهيرها من الشرك وما يتفرع عنه، وتحقيقها بالتوحيد وما يتفرع عنه، وتخلُّقها بأسماء الله الحسنى، مع العبودية الكاملة لله بالتحرر من دعوى الربوبية، وكل ذلك من خلال الاقتداء برسول الله ﷺ» . يتضح جليا، في ضوء هذا المنظور الذي تدل عليه النصوص الشرعية المأخوذة من الكتاب والسنة، أن التزكية تدل على معاني التربية الإيمانية التي يحتاجها الفرد المسلم في كل وقت وحين، تلك التربية التي «تطهره من الشرك والذنوب وتنمي فيه عناصر الخير، فيغدو إنسانا مؤمنا موحدا ومسبحا لله بذكره وفعله، ومقيما للصلاة بخشوع، مما يرفعه إلى مصاف عباده المفلحين الذين يتقربون إليه بأعمالهم تزكية، فيرضى عنهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم» . إن عصرنا الحالي هو عصر الفتن والمغريات الكثيرة المحيطة بالإنسان المسلم أفرادا وجماعات. وما أحوجنا إلى بعث جديد لهذا المصطلح التربوي القرآني الذي هو التزكية التي لا تتم إلا بالتربية، تربية الأنفس على العمل الدؤوب الموافق للشرع الحنيف، تلك التربية التي ينبغي استخلاص أسسها ومناهجها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. يقول تعالى: ﴿ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) طه: 74ـ75. إن تربية النفس وتطهيرها من الخبائث والفواحش ما ظهر منها وما بطن، يبدأ بإصلاح الذات أولا وتربيتها على الفضائل وتأديبها قبل البدء بإصلاح الآخرين وتأديبهم، يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «من نصّب نفسه للناس إماما، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. ومُعلِّمُ نفسِهِ ومُؤدِّبُها أحقُّ بالإجلال من معلِّم الناس ومؤدِّبهم»
تزكيــة النفس وتقويمها:
إن هذه الخاصية من أساسيات التربية في القرآن الكريم، لأنها تدل على يقظة القلب وصحوة الضمير الإيماني في نفْس المؤمن، فينتقل إلى مرحلة جديدة يُقبل فيها على الآخرة، بالإكثار من أعمال الخير والبرّ والمبادرة إليها، وانصرافه عن طلب الدنيا والتهافت عليها، كما يحدث لأغلب الناس الغافلين عن حقيقتها وطبيعتها الانتقالية، والاستمرار في ذكر الموت والاستعداد للقاء الله عز وجل . بل إنه يتحقق جيدا بقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقو'يها قد أفلح من زكّـ'ـها وقد خاب من دسَّـ'ـها﴾ الشمس: 7ـ10.
إن سمة التزكية تجعل المؤمن عموما والمربي القدوة خصوصا مداوما على تأديب نفسه وتزكيتها وتطهيرها بدءا بالتوبة والإنابة، ومرورا بالمراقبة والمحاسبة، وانتهاء بالمجاهدة . وهذا هو عين منهج تزكية النفس وتقويمها عند أسلافنا الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وعلى رأسهم نبيّنا محمد ﷺ. وهو منهج يقوم على دعائم أربع هي:
1. المشارطة.
2. والمراقبة.
3. والمحاسبة.
4. والمجاهدة.
فالمشارطة قبل الفعل، والمراقبة أثناءه، والمحاسبة والمجاهدة بعده ، باستدراك ما فات وتطويع النفس لمحبّة الله تعالى ومرضاته. يقول عز وجل: ﴿والذين جـ'هـدوا فينا لنهْدينَّهم سُبُلنا وإنّ اللهَ لمعَ المُحْسِنين﴾ العنكبوت: 69. يقول ابن كثير: «يعني الرسول ﷺ وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين: ﴿لنهدينّهم سبلنا﴾ أي لنبصّرنّهم سبلنا، أي طرقنا في الدنيا والآخرة» . وهذه كلها مقامات تعبدية يستحضر فيها المؤمن الحقُّ قيمة الوقت، وأن الحياة الدنيا فانية إلى زوال، وأن الدار الآخرة باقية إلى خلود. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكِبَي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتِك). وهكذا كان حال السلف الصالح رضي الله عنهم مع هذه المقامات التعبدية «فقد عاقب عمر بن الخطاب نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة، بأن تصدق بأرض كانت له، قيمتها مائتا ألف درهم، وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة ... وفات ابن أبي ربيعة ركعتا الفجر فأعتق رقبة. وكان بعضهم يجعل على نفسه صوم سنة أو الحج ماشيا أو التصدق بجميع ماله. كل ذلك مرابطة للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها» . وهم في كل تلك المقامات التعبدية يقتدون بسيرة الرسول ﷺ المربي القدوة الذي إذا فاته وتره من ليله يصلي في صبيحة الغد اثنتي عشرة ركعة، استدراكا منه لما فات من ليله ﷺ تسليما كثيرا. «فعن سعد بن هشام، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجَع أو غَيْره، صلى من النهار ثِنْتَيْ عشرة ركعة»
إن الحاجة اليوم أصبحت ملحة إلى مطلب التزكية في كافة مرافق الحياة الإنسانية، ومؤسساتها النظامية وغير النظامية، بدْءا بالأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام، وانتهاء بالدولة ومراكز صنّاع القرار السياسي والاقتصادي، ومرورا بأدقّ تفاصيل الحياة اليومية في الشارع والسوق، ومع جماعات الأقران والصغار والكبار على حد سواء (أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا)، مما يمكِّننا من بعْثٍ جديد لحضارتنا الإسلامية المجيدة، على أساس المنهج الرباني الذي رسمه القرآن الكريم وبينته السنة النبوية الشريفة. يقول تعالى : ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الرعد: 12. يفسر الإمام الطبري هذه الآية بقوله: "إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك، بظلم بعضهم بعضا، واعتداء بعضهم على بعض، فيُحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره. ونفس هذا المعنى واردٌ في قوله تعالى: ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الأنفال: 54. ولا يمكن أن يكون التغيير من حال السّوء إلى حال الحسن، ومن المعصية إلى الطاعة إلا باتباع صراط الله القويم، وتدبر آيات قرآنه الحكيم، والسير على نهج نبيّه الكريم ﷺ. وهذا هو حال التزكية التي يرفع الله بها البلاء، ويحقق بها النصر والتمكين، ذلك أن «النصر والنجاح في أيّ أمر من الأمور، لا يأتي بشكل عفوي، وإنما له طريق تُمتحن فيه الأمة عن مدى ثباتها وصمودها، وإرادتها على تغيير الخلل الذي بداخلها» . وعندئذ تنبعث الأمة الإسلامية من جديد، وقد توفرت فيها كل الشروط المؤدية إلى ذلك، بالاستعداد الروحي والنفسي والذهني لإعادة بناء حضارة القرآن المجيدة، وبالقضاء على أسباب التجزُّؤ والتفرقة والتشتت، وتوفير أسباب الاستقرار النفسي والاجتماعي والفكري، من خلال شرط توجيه العمل التربوي نحو سدِّ كل منافذ الاضطراب النفسي والفكري الذي يجتاح اليوم سواد هذه الأمة (. وكذلك بعث نفس (بفتح النون والفاء) الرسالية في أفرادها ومجتمعاتها ومؤسساتها، بعدما نخرتها لعقود طويلة سموم الآلية المُتبطِّنة وراء ستار الحداثة والعولمة. ولن يتم هذا النوع من التغيير، إن شاء الله تعالى إلا بالتغيير الأكبر الذي سماه رسول الله ﷺ بالجهاد الأكبر، ألا وهو تغيير النفس من الداخل، ليعقبه التغيير الخارجي في مختلِف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية، والفكرية والنفسية، والتجارية والصناعية وهلُمّ جرا. وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) كتاب العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، الجزء الثاني، ص. 189.
([2]) مقاييس اللغة، لابن فارس، الجزء الثالث، ص. 17.
([3]) معجم مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص. 218.
([4]) المستخلص في تزكية الأنفس، لسعيد حؤى، ص. 153.
([5]) التربية والتعليم في القرآن الكريم، لأحمد حسن الخميسي، ص. 125.
([6]) نهج البلاغة، لعلي بن أبي طالب، الجزء الثالث، ص. 549.
([7]) نظرات في التربية الإيمانية، مجدي الهلالي، ص. 68.
([8]) منهاج المسلم، أبو بكر جابر الجزائري، ص. ص. 68 ـ 72.
([9]) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، كتاب المراقبة والمحاسبة، ص. ص. 1765 ـ 1790.
([10]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 6/160.
([11]) صحيح البخاري، البخاري، ج. 4، كتاب الرقاق، باب : قول النبي صلى الله عليه وسلم : "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، ص. ص. 1300 ـ 1301.
([12]) إحياء علوم الدين، نفسه، ص. 1781.
([13]) صحيح مسلم، مسلم، ج. 3، كتاب : صلاة المسافرين وقصرها، باب : جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، ص. 282.
([14]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، الجزء الثالث عشر، ص. 471.
([15]) الدعاء سبيل الحياة الطيبة، لسعاد الناصر، ص. 54.
([16]) منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، لمحمد سعيد رمضان البوطي، ص. ص. 182 ـ 188.