البحث

التفاصيل

الحلقة السادسة من مقامات إيمانية:مقام التلاوة

الرابط المختصر :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، إمام المتقين، وخاتم النبيئين والمرسلين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 الحلقة السادسة من مقامات إيمانية:

 د. عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد

              مقام التلاوة

التــــــــلاوة:

جاء في مقاييس اللغة في مادة (تلو): «التاء واللام والواو أصل واحد، وهو الاتباع، يقال: تلوته إذا تبعته، ومنه تلاوة القرآن، لأنه يتبع آية بعد آية» ( وفي كتاب العين مادة (تلا، تلو): «تلا فلان القرآن يتلو تلاوة، وتلا الشيء: تبعه تُلوا»"(. وعند الراغب الأصفهاني تختص التلاوة في القرآن الكريم بـ «باتباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب، أو ما يتوهم فيه ذلك. وهو أخص من القراءة، فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة» . إن مصطلح التلاوة في القرآن الكريم يصطبغ بصبغتين أساسيتين هما: الأولى: تلاوة اللسان وهي تلاوة القرآن الكريم باللفظ من حيث الاهتمام بالأداء الصوتي للحروف من حيث صفاتها ومخارجها، والأداء اللفظي للكلمات من حيث قراءتها وفهم معانيها وتدبرها. الثانية: تلاوة القلب والحال وهي تلاوة بالمعنى من حيث الوعي به وتشرب قيمِه في الوجدان والقلب، والعمل بمقتضاه في واقع الحال، أي اتباع أوامره واجتناب نواهيه. يقول تعالى: ﴿الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون بهـ الآية﴾ البقرة: 120. نقلا عن رواية عن عبد الله بن مسعود يقول فيها: «إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويُحرم حرامه، وأن يُقرأ كما أنزله الله، ولا يُحرف عن مواضعه ... والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه» . وهذا ما قصد إليه الإمام العلامة ابن قيم الجوزية حيث اعتبر التلاوة الحقيقية «هي تلاوة المعنى واتباعه، تصديقا بخبره وائتمارا بأمره، وانتهاء عن نهيه، وائتماما به، حيث ما قادك انقدت معه، فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه، وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة، فإنهم أهل تلاوة ومتابعة حقا»

يصبح مقام التلاوة في ضوء هذا المنظور رؤية استراتيجية يسترشد بها الفرد المسلم في أعماله وممارساته. ولا يمكن أن تحقق هذه التلاوة الحقيقية أهدافها ومقاصدها إلا من خلال عمليات المدارسة لآيات الله المقروءة، بواسطة منهج التدبر والتفكر. وهذا يحتاج إلى معلمين قياديين رساليين ينهضون بهذا العمل التربوي الحضاري مقتدين في ذلك برسولنا الكريم . يقول الله تعالى: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ البقرة: 150. جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية أن الله تعالى أنعم على عباده المؤمنين بأن أرسل لهم رسولا منهم وهو محمد «يتلو عليهم آيات الله مبينات، ويزكيهم أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب وهو القرآن، والحكمة وهي السنة ... فصاروا أعمق الناس علما، وأبرّهم قلوبا، وأقلّهم تكلُّفا، وأصدقهم لهجة» . يتبين لنا من خلال الآية السابقة وآيات أخرى واردة في كتاب الله تعالى بنفس المعنى(، أنّ فعل التلاوة، كي يتحقق المقصد التربوي منه، لابد أن يرتبط ارتباطا وثيقا بأفعال التعليم والتعلم والتزكية المتصلة اتصالا عميقا بمنهج التلقي كما كان عليه الحال في عصر الرسول ، حيث كان المؤمنون يتلقون الوحي، ليس فقط بعقولهم وألسنتهم، ولكن أيضا يتلقونه بقلوبهم وجوارحهم وأفعالهم وممارساتهم، الشيء الذي جعل منهم أمة متحضرة متفوقة على سائر الأمم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. يقول تعالى : ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ آل عمران : 110. مثلما تتصل تلك الأفعال السابقة ـ أفعال التعليم والتعلم والتزكية ـ بمنهج المدارسة والتدبر الذي لا غنى عنه في تحصيل العلم النافع وتلقينه للناشئة والكبار على حد سواء. فبنزول أول آية في القرآن الكريم على سيدنا محمد ، حيث قال جل وعلا: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلقـ الآية﴾ العلق: 1، يتم الإعلان الرسمي ببداية «تحرير الإنسان لإخراجه من ظلمات الجهل إلى أنوار المعرفة والعلم، وكأن سيادة العالم وقيادته لا تكون إلا للأمة القارئة التي تقدر قيمة القراءة وتحترمها، وتسعى إلى تنميتها وتشريبها لدى أجيالها وناشئتها، لتكون ملمحا من ملامح شخصيتها ومؤشرا من مؤشرات تفوقها وريادتها» . ولئن كان منهج المدارسة يرتكز على التحصيل المعرفي والعقلي بالاشتغال من داخل النص القرآني والتفكير في جُملِه وسياقاته المختلفة، باعتباره وحدة عضوية وموضوعية متجانسة مترابطة ومتسلسلة من الفاتحة إلى سورة الناس، في إطار ما يعرف في علم النحو بالقول الطويل ، فإن منهج التدبر يرتكز على التحصيل القلبي التذوقي، داخل سياق المجتمع وبيئاته المختلفة، «إنها حركة وجدانية تجري خارج النص القرآني. إنها تتلقى المعاني والحكم من التدارس، ثم تدخل بها إلى أعماق النفس، أو تخرج بها إلى مطالعة أحوال المجتمع، لتراقب النفس والمجتمع معا على موازينها» (. إن فعل التلاوة بهذا المعنى يتحقق باللسان والعقل والقلب داخل دورة قرآنية مفعمة بالحياة والحركة، يكون حظ اللسان فيها «تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتّعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار. فاللسان يرتِّل والعقل يُترْجِم والقلب يتّعِظ» 

يبدو جليا من خلال كل ما سبق أن تلاوة المعنى هي المقصد الأساسي الذي يقوم عليه فعل تلاوة كتاب الله تعالى، من حيث هي ترجمة بالسلوك والحال والمقام لتلاوة المبنى. وكذلك باعتبارها التطبيق العملي لأوامر الله تعالى ونواهيه على أرض الواقع والحياة، فتكون التلاوة بهذا التصور مقاما إيمانيا تعبديا، وبوصلة مُوجِّهة للفرد المسلم الوِجهة الحقيقية التي يرتضيها الله جل وعلا، فينعكس ذلك على أقواله، وأفعاله، وسلوكاته، وعلاقاته، في العبادات والمعاملات، وفي الظروف والأحوال والمآلات. وصلى الله وسلم على نبينا المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


([1]) مقاييس اللغة، ابن فارس، الجزء الأول، ص. 351.

([2]) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، الجزء الأول، ص. 189.

([3]) معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص. 71.

([4]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، الجزء الثاني، ص. 492.

([5]) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة، ابن قيم الجوزية، الجزء الأول، ص. 203.

([6]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، الجزء الأول، ص. ص. 253 ـ 254.

([7]) أنظر على سبيل المثال لا الحصر : الآية 128 من سورة البقرة، والآية 164 من سورة آل عمران، والآية 27 من سورة الكهف، والآية 2 من سورة الجمعة.

([8]) القراءة والتعلم، عبد الكامل أوزال، ص. 3.

([9]) الجملة الطويلة في القرآن الكريم، علي ناصر غالب، ص. ص. 32 ـ 34.

([10]) مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ص. 74.

([11]) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد بن محمد الغزالي، كتاب آداب تلاوة القرآن، ص. 340.


: الأوسمة



التالي
مسلمات يتحدثن عن تحديات ارتداء الحجاب في فرنسا
السابق
تركيا: محمد غورماز.. في رسالة إلى شيخ الأزهر ومفتي مصر: لا تفتريا على الله (فيديو)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع