الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، إمام المتقين، وخاتم النبيئين والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحلقة الثامنة من مقامات إيمانية:
د. عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد
مقام الإصلاح
الإصـــــــــلاح:
يعتبر مقام (الإصلاح) مركزيا في القرآن الكريم لأنه يشكل القاعدة الأساسية التي ينهض عليها الأمر والنهي. وعليه مدار حياة الفرد المسلم كلها. الإصلاح لغة مأخوذ من مادة (صلح). جاء في لسان العرب: «الصلاح ضد الفساد، صلح ـ يصلح، ويصلح صلاحا وصُلوحا ... وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه. وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت. والصلح: تصالُح القوم بينهم» ([1]). وعند الخليل بن أحمد الفراهيدي «الصلاح: نقيض الطلاح، ورجل صالح في نفسه ومُصلح في أعماله وأموره.. »([2]). وعند الراغب الأصفهاني الصلاح والفساد فعلان متضادان «وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال. وقوبل في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة، قال تعالى: ﴿خلطوا عملا صالحا وآخر سئيا﴾ التوبة: 103، وقوله تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾ الأعراف: 55» ([3]).
يقول تعالى: ﴿إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون﴾ الحجرات: 10. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية إن جميع المؤمنين إخوة في الدين «كما قال رسول الله ﷺ: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» ... وقوله تعالى: ﴿فأصلحوا بين أخويكم﴾ يعني الفئتين المقتتلتين، ﴿واتقوا الله﴾ أي في جميع أموركم..»([4]). وفي ذلك إشارة واضحة من الآية الكريمة أن الفرد المؤمن الذي يسعى في الإصلاح بين الناس، خاصة إذا كانوا متخاصمين متنازعين، هو مؤمن صادق في إيمانه مخلص في عمله، إلى درجة أن الرسول ﷺ لم يلصق صفة الكذب بمن يسعى في إصلاح مجتمعه، وزرع بذور الأخوة بينهم، فيكون مفتاحا للخير مغلاقا للشر. ففي الحديث الذي ورد عن حميد بن عبد الرحمن أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته: أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا» ([5]). ومن سمات الإصلاح ومن يتصف به من المسلمين المؤمنين، التحلي بخلق عدم التعريض بالذين يقترفون ذنوبا، ويرتكبون معاصي وآثاما، لأن الهدف الأسمى الذي ينهض عليه هذا المقام الإيماني في الإسلام هو بناء إنسان سويٍّ متخلِّقٍ بأخلاق النبوة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم. وينبغي الإشارة إلى أمر خطير كثيرا ما يتغاضى الناس عنه في عصرنا الحالي، وهو أن السعي في الإصلاح والتقرب إلى الله تعالى بأعمال الخير التي يعمّ نفعها الناس أجمعين، لا يمكن أن تؤتي ثمارها وتؤدي وظيفتها على أحسن وجه إذا كان أساسها غير مستمد من أصول الإسلام، وأصول الإيمان المعروفة، «فلا تجدي أعمال الخير والمساعدات الإنسانية التي يقوم بها المشركون أصحابها شيئا، لأنها أقيمت على شفا جرف، وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ الفرقان:23 » ([6]). فكل الأعمال التي يقوم بها الفرد المسلم لإصلاح الناس جميعهم لا بد أن ترتبط وتصطبغ بصلاح العقيدة أولا. وهذا شرط أساسي ضروري لقبولها ومباركتها، لأنها تدخل في كلّ طيب يحبه الله تعالى ويرضاه لعباده، مصداقا لقول الرسول ﷺعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال تعالى: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا﴾ المؤمنون: 52. وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ البقرة: 171، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام، فأنى يستجاب له» رواه مسلم ([7]). ولئن كان العمل الصالح مشروطا بالحلال الطيب ومسبوقا به، فلأنه من جنس كل الأعمال التي «اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مع الشرائع النبوية، وزكّتها العقول الصحيحة، فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة، مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، ويؤثر مرضاته على هواه، ويحسن إلى خلقه ما استطاع .. وإذا رأى لهم حسنا أذاعه، وإذا رأى لهم سيئا كتمه، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة، ولا يناقض لله أمرا ولا نهيا» ([8]). ومن ثم فإن مقام الإصلاح في القرآن الكريم يتضمن معنى السعي إلى مرضاة الله والفوز بالسعادة الأبدية في الجنة. وذلك لا يتأتى للإنسان المسلم إلا بالأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى. فكل عمل صالح «ترتضيه العقول، وتستعذبه الفطر، ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله» ([9]). كما يتضمن مفهوم هذا المقام أيضا معنى النصيحة أو إسداء النصح، فالنصيحة دعوة صريحة إلى الخير والصلاح ونهي عن الشر والفساد. وهذا ما قام به الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، ومن سلك مسلكهم من العلماء والدعاة والمصلحين عموما. يقول تعالى على لسان النبي هود عليه السلام: ﴿أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين﴾ الأعراف: 67، وعلى لسان النبي شعيب عليه السلام: ﴿فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين﴾ الأعراف: 92. ويقول تعالى أيضا: ﴿وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين﴾ القصص: 19. ويتضح من مضمون هذه الآيات البينات أن النصح سواء كان من نبيٍّ مرسلٍ أم كان من رجل مؤمن يكتم إيمانه، يهدف إلى إشاعة الخير وإقامته لدى المنصوح أولا، ولدى الناس أجمعين ثانيا. وهذا هو عين الإصلاح الذي يسعى إلى بناء أمة تسود فيها الفضيلة، وتعمّ فيها السكينة والطمأنينة، وينتشر فيها العدل والصدق والمحبة.
جعلنا الله تعالى من المُصْلحين المتقين الذين يسعون لإقامة شريعة الإصلاح والصلاح في الفرد والأسرة، والمجتمع، والأمة، بالسُّبُل المُتاحة والإمكانات المتوفّرة، وإشاعة نفس (بفتح النون والفاء) الأخُوّة والإخاء بين الناس كلهم، على اختلاف مراتبهم ومسؤولياتهم واتجاهاتهم ومذاهبهم، فنتحقق ونتخلق بقول الله عز وجل: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ آل عمران: 110 وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) لسان العرب، لابن منظور، المجلد الثاني، ص. ص. 516 ـ 517.
([2]) كتاب العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، الجزء الثاني، ص. 406.
([3]) معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص. 292.
([4]) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، الجزء السابع، ص. 289.
([5]) صحيح البخاري، البخاري، الجزء الثاني، كتاب الصلح، باب : ليس الكاذب الذي يُصلح بين الناس، ص. 549.
([6]) إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية، محمد تاتاي، ص. ص. 38 ـ 39.
([7]) الأربعين حديثا النووية بشرح الشيخ عبد المجيد الشرنوبي الأزهري، للإمام النووي، ص. ص. 31 ـ 32.
([8]) زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، الجزء الأول، ص. 28.
([9]) تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، لعبد الحميد بن باديس، ص. 265.