يا سكَّان العوالم الافتراضيّة؛ كونُوا أنفسَكم
بقلم: محمد خير موسى – عضو الاتحاد
الكثير من العقد النّفسيّة والاجتماعيّة هي ممّا أورثته وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف منصّاتها ابتداء بالفيس بوك وصولًا إلى التيك توك مرورًا بالإنستغرام وسناب شات وتويتر وغيرها لشريحةٍ لا يستهان بها ممّن غدَوا من سكَّان هذه العوالم الافتراضيّة أكثر من سكنهم في عوالمهم الواقعيّة؛ هذه العُقدُ التي أثّرت بشكلٍ ظاهرٍ على نظرتهم إلى ذواتهم ونظرتهم إلى الواقع المحيط، فأحالت حياة البعض منهم جحيمًا لا يطاق وأغرقَت سفنَهم في يمِّ الكآبة والحسرة.
الشّعور بالفشل والتحسُّر على الذّات
أحدثَت العوالم الافتراضيّة لسكّانها لا سيما الإناث منهنّ شروخًا في أعماق النّفسِ، وتشقّقات في جدران الإيمان بالذّات، وتصدُّعات في أرضيّة الهدأة والطّمأنينة، وحطامًا في الثّقة بالقدراتِ، وشعورًا بالفشلِ وعدم القدرة على تحقيقِ الإنجازات، والشّعور أنَّ الآخرين يحقّقون ذواتهم ويستمتعون بإنجازاتِهم ويقاربون طموحاتِهم بينما هم ما يزالون يراوحون مكانهم بلا تقدّمٍ ولا إنجاز ولا نجاح.
وعادةً ما يتولّدُ هذا الشّعور من خلال متابعة حسابات مجموعةٍ من المتفاخرين بنجاحاتِهم، المتباهينَ بإنجازاتِهم، النّاشرين صورهم وكلماتِهم، النّاثرينَ في الأفق الافتراضي كلامًا وصورًا ومقاطع فيديو اعتزازًا بنتاجَ أيّامهم، لا سيما من النّاشطين الشّبابِ المعروفين بحركتهم الدّائبة، أو شريحة “المؤثّرين” الذين تصطفّ طوابير المتابعين أمام حساباتِهم بمئات الملايين، أو ثنائيّات الأزواجِ المكثرين من صورهم والتّباهي بما حققوه معًا في ظلّ أسرةٍ تنقل الصّورة على أنّها عنوانُ النجاح العمليّ والتّربويّ، وأنّها نموذجٌ خارقٌ على البيئة الحاضنة للتألّق الفكري والنّجاح والإبداع رغم الصّعوبات والمشاق، أو كتّاب المقالاتِ الذين لا يتركون حدثًا إلّا وكان لهم في عميقِ بئرِه دلو، وفي ميادينه خيلٌ تتسابق، أو القرّاء المُكثرين من صور الكتب التي يقرؤونَها وينصحونَ بها الشّباب.
كلّ هذه النّماذج والتصرّفات وغيرها تصيبُ الشباب والشّابات عند تتبّع هذه الحساباتِ بالغيرةِ المُضنية، والحسرة على الذات التي لم تبلغ شأو هؤلاء المتفاخرين بإنجازاتِهم أو المتباهين بسعادتهم.
هذه الحسرةُ التي تصل مع الأيام إن تُركت على غاربها إلى عُقدٍ تتفتّق عن دماملَ في قاع الرّوح ينفجرُ قيحها مع كل موجةٍ حزنٍ أو تفكُّرٍ أو تحسُّرٍ على الذّات فتحيل العمرَ حرائقَ لا تنطفي.
خمس رسائلُ في منهجيّة التّعامل مع هذه الحال
بعيدًا عن التّعقيد في اللّفظِ والفكرة، إذ إنّ الأمر أبسط من الحاجة للتّعقيد، وتعليقًا على هذه الحالة ورسمًا لمنهجيّة التّعامل معها؛ أقول لأبناء وبنات الحلال السّاكنين في هذه العوالم الافتراضيّة وانفصلوا إلى حدّ لا بأس به عن حياتهم الواقعيّة؛ هاكم هذه القواعد السّريعة فاسمعوها جيّدًا:
أولًا: لا يعيشُ هذا الشّعور من الحسرة والغيرة في ظلال النّجاح والنّاجحين إلّا من يملك نفسًا طامحةً وروحًا توَّاقةً، وقلبًا يخفق رغبةً في التّألّق، وكبدًا تحترقُ للعروجِ في مراقي الفلاح والنّجاح، وهذا وحده ـ والله ـ يستحقُّ أن تغبطوا أنفسكم على هذا الشّعور الذي يعني أنّ خفقةَ الحياةِ بين جوانحكم لا تعرفُ كللًا ولا مللًا؛ فلا تزهدوا بهذه الرّوح، ولا تكبتوا هذا الطّموح في أنفسكم بل دعوه يأخذ مداه في تحقيق الأفعال والإنجازات التي تعبّر عنكم، ولا تقتلوا قدراتِكم الوثّابة بجعلها خاضعةً لموازين وقوانين صورة الآخرين في العوالم الافتراضيّة.
ثانيًا: يُكتَب على مرآةِ السيّارة ـ عادةً ـ عبارة تحذير مفادُها بأنَّها تُظهر الصّورة للسّائق أقرب ممّا هي عليه في الواقع، وإنّ وسائل التّواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضيّة أولى بأن يوضع عليها هذا التّحذير؛ وهي على العكس من مرآة السيّارة تُظهرُ الصّورة للمتابِع أكبرَ بكثيرٍ ممَّا هي عليه في الواقع، فلا تنخدعوا بكثيرٍ ممّا تتابعونَه من بالونات النّجاحِ التي تنفجرُ مع أوَّل دبّوسٍ واقعيّ، وتذكّروا أنّ وسائل التّواصل الاجتماعيّ تضخّم صوَر المتفاخرين بأنفسهم أضعاف ما هي عليه في الواقع، ولقد عاينتُ عشراتِ الحالاتِ التي نفخها العالم الافتراضيّ حتّى تضخّمت في عين ذاتِها وأعين المتابعين، وهي في الواقعِ أشدّ فراغًا ممّا يتوقّع هؤلاء الطّامحون والطّامحات الغيارى، وصدّقوني إنّ كثيرًا ممّن يسبِّبون لكم هذه الآلام النفسيّة العميقة لو أتيح لكم لقاءهم في الواقع لأصبتم بالصّدمةِ والدّهشة من كذب الصّورةِ وخداعِ البريقِ الزّائفِ، ولربما أنِفتُم من مجالسةِ من كنتم تحلمون يومًا أن تكونوا مثلهم همَّةً وطموحًا وإنجازًا.
ثالثًا: لا يخلو الأمر من نماذجَ ناجحة ومتألّقة تستحقّ المتابعة والتفكّر في خطّ سيرِها، وهي تستحقّ منكم متابعتها والإفادة منها في تعزيز الطّموح وشحذ الهمم الذّاتية، ولكنها عددها أقلّ بكثير جدًا ممَّا ترونَ في هذا العالم المُتخم بالمتشبِّعين بما لم يُعطَوا، والمتباهينَ بما ليس فيهم، ومع ذلك فإنَّ التّعاملَ مع هؤلاء الناجحين والمتميزين يجب ألَّا يكون على قاعدة الإبداع المطلق، بأنَّهم مبدعون في كل شيء من جوانب حياتِهم، بل ثق وثقي أنّ هذا المبدع حقّق نجاحًا في أبواب لم يسعفك التميّز فيها، غير أنّه أيضًا يفتقر إلى النَّجاح في جوانب أنتَ وأنتِ فيها أنجح منه بكثير، وأنَّه يتوق أن يكون مثلك في قدراتٍ أنساكَ انشغالُك به الالتفات إليها، وإنّ رؤيتك المثاليّة للأشخاص من خلف ستار شاشة الهاتف الذي استودعته عقلك وقلبكَ والمقترنة برؤيتِك السلبية لنفسك وذاتك تجعلك تجهل جوانب النَّقص فيه وتغفل عن جوانب التألّق والجمال فيك، فلا تُخسِر الميزانَ في نظرتِك لنفسِك ولا تطفّفه في نظرتك لغيرك، وتذكّر أنه ويلٌ للمطفّفين.
رابعًا: لا تفكِّر أن تكونَ غيرَك، ولا تحاول أن تتقمّص سواك ممن تظنّهم ناجحين، ولا تعصر نفسك حسرةً وغيظًا كلّما رأيتَ آثارَهم المفترَضة على موج هذا العالم الافتراضيّ، وكن مؤمنًا بأنَّ الله الذي أعطاهم قدراتٍ تفجّرت على صفحات العالم الافتراضيّ، قد أعطاك قدراتٍ ووهبك تألقًا في مجالات عدّة تفجّرت فعلًا أو أنَّ بإمكانك تفجيرها على صفحات الحياة الواقعية.
خامسًا: تأكد وتأكّدي أنَّه لن يُريحك أن تكون مثل أيّ أحد يبهرك نجاحه، ولن ترتاح روحك وتهدأ نفسك إلَّا إن كنتَ نفسَك، وحقّقتَ ذاتَك أنت لا ذواتهم بك، فإنّك تستحقّ أن تكونَ أنتَ.