الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، إمام المتقين، وخاتم النبيئين والمرسلين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحلقة التاسعة من مقامات إيمانية:
د. عبد الكامل أوزال: عضو الاتحاد
مقام الإحسان
الإحســـــــــــان:
يشكل مقام الإحسان لبنة أساسية في المنظومة التربوية الإسلامية، ومرتبة عالية يكتمل بها الدين الحنيف الذي أنزله الله تعالى على خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد ﷺ. جاء في لسان العرب في مادة (حسن) : «الحسن ضد القبح ونقيضه .. حسُن وحسن يحسُن حسنا فهو حاسن وحسن .. قال الجوهري: والجمع محاسن على غير قياس» (. وفي كتاب العيْن: «حسُن الشيء فهو حسن .. والمحاسن من الأعمال ضد المساوئ، قال الله عز وجل: ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ يونس: 26، أي الجنة وهي ضد السوءى». وعند الراغب الأصفهاني يأتي الإحسان أعمَ وأشمل من الإنعام، كما أنه فوق العدل، «وذاك أن العدل هو أن يُعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له. فالإحسان زائد على العدل. فتحري العدل واجب، وتحري الإحسان ندب وتطوع. وعلى هذا قوله تعالى: ﴿ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن﴾ النساء:124، وقوله عز وجل: ﴿وأداء إليه بإحسان البقرة:177". إن مقام الإحسان في الإسلام ينبني على أساس متين في المنظومة التربوية لديننا الحنيف، ألا هو أساس التقوى التي أمر الله تعالى بها، لأنها منبع كل الأعمال المتصفة بالحُسْن والفضل. يقول تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ آل عمران : 102، ويقول عز وجل : ﴿ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين﴾ البقرة : 234. يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية : «إن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى، فهو على غيرهم أوجب، ولهم ألزم ... ويعني بقوله ﴿المحسنين﴾ الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه». ويقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿حقا على المحسنين": «فقوله ﴿حقا﴾ تأكيد للوجوب ومعنى ﴿على المحسنين﴾ و﴿على المتقين﴾ أي على المؤمنين، إذ ليس لأحد أن يقول: لستُ بمحسن ولا متق، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين، فيحسنوا بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار، فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين» أما بخصوص قوله تعالى: ﴿وسنزيد المحسنين﴾ البقرة: 57، فيقول الإمام القرطبي: «نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم. وهو اسم فاعل من أحسن: من صحح عقد توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء فرائضه، وكفى المسلمين شره. وفي حديث جبريل عليه السلام: «ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: صدقت. وذكر الحديث، أخرجه مسلم».
يتبين لنا بوضوح أن مقام الإحسان في الإسلام يدل على مرتبة سامية ومنزلة عالية، لا يبلغها إلا المتقون الذين أدركوا بفطرتهم السليمة أن الإحسان واجب عيني على كل إنسان مسلم «وأن الله تعالى كما أحسن إليه بنعمه، عليه أن يحسن بهذه النعم إلى الخلق، قال الله تعالى: "وأحسن كما أحسن الله إليك" القصص: 77» . إن الإحسان إلى الخلق يبدأ من ذات الإنسان بأن يُحْسِن عقيدته بتنقيتها من الشبهات وتجنيبها الوقوع في الشرك، ثم الإحسان إلى الناس أجمعين بدءا بالأقرباء وانتهاء بالمجتمعين الصغير والكبير، أفرادا وجماعات، باستعمال نِعم الله وتوظيفها في طاعته سبحانه وتعالى. إن هذا المقام الذي هو الإحسان، كما يدل عليه المصطلح القرآني في صيغه الثلاث: الصيغة المصدرية والصيغة الفعلية والصيغة الاشتقاقية ، يتضمن معنى الخيرية الشاملة لكل أنواع الفضل التي ترقى بالحضارة الإنسانية، وتجعل الإنسان المسلم يسمو بأخلاقه وأعماله، فيكون ظاهره ترجمانا لباطنه. ويبلغ بذلك المقام الرفيع الذي أوجزه الرسول ﷺ في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». رواه مسلم . إن هذا المقام الرفيع هو مقام أصحاب القلوب التي استضاءت بنور الإيمان، وأقبلت على الله تعالى خالصة مخلصة لا تبتغي بعملها سواه عز وجل. وهذا هو عين الكرم والجود وهو «أن تعطي من نفسك الحق طائعا وتتجافى عن حقك لغيرك قادرا» ، فيرتقي الإنسان بهذا الصنيع المحمود إلى درجة «المحسنين» الذين يعملون بإخلاص وتفان وإتقان، دون النظر إلى المقابل الذي يترتب عن ذلك العمل من أجر أو ثواب. ولن تستطيع التربية بمناهجها ومواردها ووسائلها بلوغ هذا المستوى «إلا إذا غرسنا معنى الإحسان في النفوس على أنه من محاب الله تبارك وتعالى». ما أحوجنا اليوم إلى بعث جديد لهذا المقام الإيماني الأصيل الذي هو الإحسان، وإرسائه على قواعد سليمة مستمدة من الكتاب والسنة في الحياة الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية والتعليمية، والعلمية والثقافية والإعلامية، والتكنولوجية، وفي كل المجالات وعلى كل المستويات، أفرادا وجماعات. فأي «خير عميم يغمر الناس إذا سيطرت عليهم صفة الإحسان، إنهم أحرى بأن يحققوا المدينة الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة والتي طبقها الإسلام في أول عهده» . ومن شأن ذلك أن يبني لنا جيلا جديدا يتسم بسمات ما يمكن الاصطلاح عليه بالشخصية الإحسانية التي تكون قدوة ومثالا يُحتذى به في الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، والدولة، والأمة بأسرها، بل يكون نموذجا للعالم بأسره. إن الشخصية الإحسانية لا تتعلق بالفرد فحسب، بل تشمل المجتمع والأمة والدولة بكافة مؤسساتها وأجهزتها وبنياتها وبيئاتها. ثم إن الشخصية الإحسانية المقصودة في هذا المقام تسعى إلى طبع كل الأعمال والمنجزات بطابع الإتقان، وجعلها تتأسس على قيم الجمال والجلال المستوحاة من الكتاب والسنة. فالإحسان بهذا المعنى تربية للذوق الجمالي السليم من العاهات والأمراض، وتربية للأخلاق الفاضلة التي « تستهدف تجميل باطن الإنسان وتحليته بالجمال القلبي الذي هو درجات ومقامات» . إن في القرآن الكريم نماذج مثلى وصورا شتى للشخصية الإحسانية، ولعل أعلاها وأسماها نموذج الرسول ﷺ ، يقول تعالى : ﴿لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ الأحزاب : 21. يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية : «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي ﷺ يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين .. » . أما الشيخ محمد المكي الناصري رحمه الله فيقول في تفسير هذه الآية: «...ولما كان الائتساء برسول الله والاقتداء به على الوجه الأكمل مقاما كبيرا في الدين، لأن رسول الله ﷺ يمثل الإنسان الكامل بين العالمين، نبّه كتاب الله على أن هذا المقام لا يبلغه إلا الأصفياء من أقوياء الإيمان واليقين، وهذا معنى قوله تعالى: "لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا»
إن الشخصية الإحسانية المثلى التي رسمت ملامحها الآية الكريمة السابقة تمثل نموذجا فريدا في الخيرية الكاملة الصادقة، تلك الخيرية التي تبصر بنور الله وتحيى به، حتى يصبح بوصلة مُوجِّهة للأفعال والأعمال ظاهرا وباطنا، فيستحق صاحبها ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة مصداقا لقول الله تبارك وتعالى: ﴿فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين﴾ آل عمران: 148.
استخلاص الإشراقات الإيمانية:
إن التربية عمل رسالي في بناء العمران البشري، ويعتبر هذا العمل مزرعة ومشتلا، ثمرته ما يجنيه العبد في الدار الآخرة من حصائد عمله، إنْ خيرا فخير، وإن شرا فشر، والعياذ بالله. لذلك ينبغي أن ينصبّ الاهتمام في العمل العلمي والتربوي والدعوي على الإنسان، من حيث هو كينونة استخلصها الله تعالى في هذه الحياة الدنيا، وأودع فيها فطرته وصبغته، وكرّمه بالعقل ليستقيم قلبه، ويتعظ بآيات الله المنظورة في الكون، وبآياته المقروءة المتلوة في كتابه الكريم، إلى أن تقوم الساعة. وباستقامة القلب على صراط الله القويم، يستقيم حال الإنسان العبد، فيتخلّق بآيات الله، ويُنزِّل ذلك على ذاته أوّلا، في الأحوال والظروف والأعمال، مع نفسه في خلوتها، ومع غيره في اجتماعاته وعلاقاته ومعاملاته وسلوكه. وهو عبد استخلصه الله تعالى ليكون ربّانيا مُتّبِعا للهُدى القرآني والنّبوي، ومتخلِّقا بأخلاق الإسلام والإيمان والإحسان، فهو مبلّغ عن الله تعالى يقتدي في ذلك بمنهج رسول الله ﷺ، في الدعوة إلى الله، وهو أيضا يسلك طريق التعلم، مهما بلغت مراتبه العلمية والفكرية والدعوية، يسعى دائما في تحصيل العلم النافع من خلال مجالس القرآن، يتربى ويتزكى. يصلح ذاته أولا، ثم ينطلق في إصلاح غيره ليعم الخير جميع الناس، من خلال تطوير مكتسباته المعرفية وصقل مواهبه وطاقاته العلمية والدعوية والتربوية.
وهو في كل ذلك يرتقي في معراج التربية الإيمانية ليبْلُغ، في مقاماتها ومنازلها، درجة الإحسان، ويتحقق بمواصفات الشخصية الإحسانية المثلى التي دعا إليها القرآن الكريم في أكثر من آية، وسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، قبل البعثة وبعدها إلى أن التحق بالرفيق الأعلى.
خلاصة عامة:
نخلص ممّا تقدّم أن مقام الإحسان في الإسلام، يندرج في إطار نسقٍ إيمانيٍّ متماسك، يتشكّل بالتدريج من مراتب ثلاث:
- مرتبة الإسلام
- ومرتبة الإيمان
- ومرتبة الإحسان
- فمرتبة الإسلام هي مرتبة عبادة الظاهر (العبادة الحسية)
- ومرتبة الإيمان هي مرتبة عبادة الباطن (العبادة القلبية)
- ومرتبة الإحسان هي خلاصة اجتماع الإسلام والإيمان، واتحادهما في عمل العبد المؤمن. فتصبح الثمرة إسلاما وإيمانا وإحسانا.
جعلنا الله من المُتّقين المُحسِنين الذين يسارعون إلى الخيرات، فينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى: ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم مُحسنون﴾ النحل: 128
وصلى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد خيرِ المُحسنين وأفضلهم إلى قيام الساعة، وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1])لسان العرب، لابن منظور، الجزء الثاني، ص. 877.
([2]) كتاب العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، الجزء الأول، ص. 318.
([3])معجم مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص. 118.
([4])جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، الجزء الرابع، ص. 303 وص. 309.
([5])الجامع لأحكام القرآن، لأبي بكر القرطبي، الجزء الرابع، ص. 167.
([6])الجامع لأحكام القرآن، لأبي بكر القرطبي، الجزء الثاني، ص. 131.
([7])روح الدين الإسلامي، لعفيف عبد الفتاح طبارة، ص. 207.
([8])قوله تعالى : "إن الله يامر بالعدل والإحسان ـ الآية" النحل : 90.
([9])قوله تعالى : "وأحسن كما أحسن الله إليك الآية" القصص : 77.
([10])قوله تعالى : "والله يحب المحسنين ـ الآية" آل عمران : 134.
([11])الأربعين حديثا النووية، للإمام النووي، ص. 20، صحيح مسلم، كتاب الإيمان،1/ 178
([12])كتاب الأخلاق والسير، لابن حزم الأندلسي، ص. 32.
([13])المحاور الخمسة للقرآن الكريم، لمحمد الغزالي، ص. 167.
([14])روح الدين الإسلامي، لعفيف عبد الفتاح طبارة، ص. 210.
([15])جماليات الإحسان، للصديق بن محمد بن قاسم بوعلام، ص. 42.
([16])تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، الجزء السادس، ص. 235.
([17])التيسير في أحاديث التفسير، لمحمد المكي الناصري، الجزء الخامس، ص. 114.