الرابط المختصر :
طلاقة القدرة الإلهية المبدعة
د . زغلول النجار
قال تعالى: *ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ* (السجدة: 6-11).
تشير هذه الآيات الكريمة إلى أن الله تعالى أحسن كل شئ خلقه، ثم توج هذا الخلق بخلق الإنسان من طين، والتشابه الكبير بين التركيب الكيميائي والمعدني في جسم الإنسان مع تركيب الطين يؤكد على هذه الحقيقة مع اختلاف بسيط في زيادة نسبة الماء والفوسفور في جسم الإنسان عن الطين العادي، كما يؤكد على هذه الحقيقة نمو الإنسان في مراحله الأولى بتغذيته على دم الأم، ودمها مستمد من غذائها، وغذاؤها مستمد من عناصر ومركبات الأرض، وبعد ميلاده يتغذى على لبن الأم أو على لبن غيرها من المرضعات، واللبن مستمد من الغذاء والغذاء مستمد من عناصر ومركبات الآرض، وبعد فطام الوليد يتغذى على المنتجات النباتية والحيوانية المباحة وكلها مستمدة من عناصر ومركبات الطين.
ومن طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق أنه تعالى خلق جميع ذرية أبوينا آدم وحواء عليهما السلام في لحظة خلقهما، وجعل هذه الذرية تخرج إلى الوجود بعملية التزاوج، ولذلك قال تعالى: *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ*، بمعنى: أن الله تعالى جعل من التزاوج ضرورة لبقاء النوع الإنساني إلى أن يشاء الله، وفي قوله تعالى: *..مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ* لمحة إعجازية حقيقية لأن هذا الماء المهين لم تصل معرفة الإنسان له إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين، والماء المهين هو القليل في الكمية ومن معانيه: المُبتذل الضعيف الذي لا يؤبه به إلا إذا استخدم فيما خلقه الله تعالى من إبقاء النسل والمحافظة عليه إلى قيام الساعة، وهذا الماء إذا استخدم في غير ذلك أصبح أمراً حقيراً مبتذلاً لا يعتنى به.
أما عن التسوية ونفخ الروح، فهما من أجّلْ العمليات في خلق الإنسان، فالتسوية تقوم على اختيار الصفات الوراثية من بين كم هائل من هذه الصفات حتى يعطي الخالق سبحانه وتعالى لكل فرد من بني آدم بصمته الوراثية التي تميزه عن غيره، ولذلك أشار إلى هذه المرحلة التي تسبق نفخة الروح فيه، وتختتم هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: *… وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون*، وهذا الترتيب يحتوي لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في كتاب الله، فالقرآن الكريم يلتزم بهذا الترتيب في سياقه الكلي وذلك لأن مراكز السمع تتقدم مراكز الإبصار في مخ الإنسان وهذه ترتبط بالفؤاد (قلب القلب، وهو ملك الأعضاء في جسم الإنسان)، ولذلك ختمت هذه الآية الكريمة بقول ربنا تبارك وتعالى: *… قليلاً ما تشكرون*، وعلى الرغم من هذه الأدلة التي لا يُنكرها إلا جاحد فإن أغلب أهل الأرض ظلوا ينكرون عملية البعث، ولذلك أُتبعت هذه الآيات بقول ربنا تبارك وتعالى: *وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ*.
ومن معاني هاتين الآيتين الكريمتين قول المنكرين للبعث: *وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ…*، أي: أإذا متنا وصرنا تراباً اختلط بتراب الأرض، فهل يمكن أن نُبعث بعد ذلك خلقاً جديداً؟! ومثل هذه الشكوك تنطلق من قياس الكفار والمشركين على الله تعالى بمعايير البشر، وهو صورة من صور الجهل بحقيقة الذات الإلهية وبطلاقة القدرة التي أبدعت هذا الكون.