كامب ديفيد” المنعطف الأخطر
د. عطية عدلان
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم تكن مصر – منذ فتحها عمرو بن العاص – إلا بلداً إسلامياً، وستبقى إلى يوم الدين بلداً إسلامياً، مهما تقلبت أنظمة الحكم فيها، ومهما خرجت هذه الأنظمة عن حدود الإسلام ومعالمه، هذا هو الثابت الوحيد في تاريخ هذا البلد، وما عداه متغير ومتقلب وكثير الألوان، ففيما عدا فترة الصفاء والرخاء الأولى التي غمرت العهد الراشدي والأموي ونحواً من خلافة بني العباس؛ لم تعرف مصر الهدوء ولم يستقر لها حال؛ فظلت على – مدى قرون عديدة – ما بين صعود وهبوط؛ بحسب ما يطرأ عليها من نظم الحكم المختلفة، فانحدرت إلى قاع الضياع في عهد الفاطميين، ثم انطلقت إلى آفاق المجد والسؤدد في عصر الأيوبيين ونحواً من عصر المماليك، ثم كان لها في ظل الخلافة العثمانية صعود نسبيّ وهبوط نسبيّ.
وقبل أن ينصرم القرن الثامن عشر بعامين ليبدأ القرن التاسع عشر بأهواله ومصائبه كانت جيوش نابليون بونابرت تحاصر الإسكندرية وتقذفها من البحر بالحمم التي تنطلق من مدافع الحضارة الغربية المعاصرة، وكان هذا الحدث هو المنعطف الأول الذي خفف من حدته ما ورثته الأمة المصرية من رصيد سابق؛ فلم يتردد المصريون لحظة في مقاومة الحملة العدوانية الشرسة، وإذا كان بونابرت قد روع أوربا وأفزعها بصولاته وجولاته فإنّه قد انكسر واندحر أمام صمود المقاومة الشعبية المسلحة التي كان يقودها علماء كبار من الأزهر الشريف.
ولئن كانت الحملة الفرنسية قد زالت سريعا فإنّها قد مهدت لتحول كبير اتسم بالنعومة والخداع، حيث انزلق في يسر ولين “محمد علي باشا” ليلتفّ على مصر كالتنين الداهية، فقد جاء والياً من قبل الدولة العثمانية عام 1805م، أى بعد مغادرة الحملة الفرنسية بثلاثة أعوام، جاء لتحتضنه فرنسا احتضانا كاملا لينفذ لها كل مخططاتها الصليبية؛ فأنشأت له جيشاً على أحدث الأساليب، مجهزاً بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ، بإشراف سليمان باشا الفرنساوى! وأنشأت له أسطولاً بحريا على أحدث طراز يومذاك، وترسانة بحرية فى دمياط، وما كان ذلك إلا لتنفيذ المخطط الصليبى الذى عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب رحيلها تحت مطارق المقاومة.
لقد كان الاستعمار يريد القضاء على الدولة العثمانية، والقيام بتغريب العالم الإسلامى، ولئن كان محمد علي قد نجح في بناء مصر الحديثة فإنّه ما بناهها إلا لتكون مملكة له ولأسرته من بعده، ولتكون للاستعمار – الذي ضمن له ابتلاع أرض الكنانة – مصدر تغريب للمنطقة بأسرها، فاستقلت مصر عن الدولة العثمانية، وكانت باستقلالها ثم بسلوكها كله عاملا من عوامل سقوط الخلافة، وهذا الذي جرى مع التغريب والولاء للغرب كان منعطفا حاداً وتحولا هائلا.
وجاء المنعطف الثالث مع الاحتلال الإنجليزي؛ لترزح البلاد أكثر من سبعين عاما، يمارس فيها الإنجليز كل أساليب التغريب في خطة بطيئة نافذة المفعول، وكان ضعف المقاومة أحد آثار حكم محمد علي وسياسته الخبيثة، إذ إنّ الشعب بعدما نُزِع منه السلاح عجز عن مقاومة شعبية كتلك التي أشعلها في وجه الفرنسيين من قبل، كما أن تخريب البنية الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية وإقامة الدولة كبديل عن المجتمع أدى إلى أن يكون سقوط الجيش الرسمي سقوطا للمقاومة، وسقوط العاصمة سقوطا للدولة والاستيلاء على مؤسسات الدولة هو استيلاء على مفاصل المجتمع.
وبرغم ذلك كله بقي مع المجتمع المصري من رصيد الإيمان ما يمكنه من النهوض والانطلاق ومواصلة النضال، فها هي الثورة تندلع في شوارع القاهرة يقودها علماء وطلاب الأزهر، ها هي ثورة 1919م تهب لتجد الدنيا قد تغيرت، وتجد أنظمة التعليم والثقافة والإعلام قد عملت على إفراز نخب متغربة تمثل ظهيرا للاستعمار، الذي استطاع من خلال بعضهم (سعد زعلول وحزب الوفد) إجهاض الثورة.
ولَمَّا كانت الثورة هذه المرة خارجة من الأزهر، ولَمّا كان التيار الصاعد أسلاميّا يسعى لثورة وطنية إسلامية، ولَمّا كانت موازين القوى في طريقها لإفراز قوى جديدة رأت أن تدير المعركة الصليبية مع الشرق الإسلاميّ بصورة أخرى؛ خرج الاستعمار الإنجليزي المباشر، وحلّ الاستعمار الغربيّ غير المباشر، وكان وكيله “العسكر”، وما دامت الثورة هي حلم الشعب، وما دامت هي لغة العصر؛ فلتكن ثورة بأيدي المستعمر نفسه، فكان انقلاب يونيو 1952م ليتغير المسار إلى احتلال بالوكالة، فبدأ عهد حكم العسكر الذي افتتحه (ناصر!) فكان ذلك منعطفاً رابعا افتتح عهدا أسودًا.
وبرغم تشرذم الدول العربية التي نشأت كلها على خريطة “سايكس بيكو” وبرغم النشأة المريبة والميلاد غير السويّ لجامعة الدول العربية؛ بقي لدى تلك الكيانات شيء من النخوة، ضرورةَ التماهي مع موجة القومية العربية التي كانت تتغذى عليها الشعوب وتقتاتها بديلا عن الحمية والهوية الإسلامية! إلا أنّ القدر كان قد خبأ لها هذا الحدث الفارق؛ ليتحول النظام العربيّ كله من نظام عربيّ إلى نظام شرق أوسطيّ تقوده إسرائيل، فها هي الأمة تمر بالمنعطف الأخطر: “كامب ديفيد”.
برغم أنّ نصر أكتوبر لم يكتمل، كانت الضربة التي تلقاها العدو الصهيونيّ وما تلاها من حالة التضامن العربيّ كافية في إصابتهم بحالة من الذعر والهلع، كان بالإمكان استثمارها بوسائل كثيرة للوصول إلى حلول عادلة للقضية، ولم يكن هناك حاجة إلى التعجيل بوقف إطلاق النار لو أنّ السلطة السياسية أطاعت في الحرب رأي الخبرة العسكرية، ولم تذهب بتفكيرها إلى خيار السلم الذي كان يداعب أحلامها مبكرا، ففي مذكراته يؤكد الشاذلي أنّ السادات – الذي قرر عدم سحب جندي واحد من الغرب إلى الشرق – كان يضمر التفاوض، ومما يؤكد ذلك أنّه في نفس الليلة التي عاد فيها من المؤتمر الذي أعلن فيه ذلك اتصل بالسفير الروسي وأبلغه بأنه موافق على قرار وقف إطلاق النار([1]).
ومرة ثانية: برغم أن نصر أكتوبر لم يكتمل، فإنّ إسرائيل تلقت لطمة أهّلَتْها لإعادة التفكير في استراتيجيتها التوسعية؛ فما قيمة أرض يحتلونها بلا مستوطنين؟ و كيف يأتي المستوطنون والحرب لا تفتر والخطر لا يفارق الدويلة الناشئة في محيط من العداوات؟ فليهدأ قطار التوسع الجغرافي؛ ليتدفق الخبث الصهيونيّ في عروق الأمة كلها، ثم تستكمل المسيرة، وهذا يلزم منه الاتكاء على أمريكا لجرّ العرب دويلة بعد دويلة إلى طاولات مفاوضات متفرقين لا مجتمعين.
وجاءت الفرصة لتَفِرَّ إسرائيل من مواجهة “العرب مجتمعين” على طاولة المفاوضات، فقبل زيارة السادات للقدس كانت أنظار العالم كله تتوجه إلى جينيف حيث الترتيب للمؤتمر الدولي للسلام، وقد كانت القضية الفلسطينية متحركة صوب الحل بعد حرب أكتوبر 73 ، وكان العالم كله حتى أمريكا وروسيا متقبلا لفكرة حل القضية الفلسطينية جذريا، وبحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وبضرورة انسحاب إسرائيل من الأرض التي احتلتها في 67، فإذا بالسادات يفاجئ الجميع بقراره الذي أثار التساؤل: لماذا يؤثر التحول عن المؤتمر الدوليّ إلى التفاوض المباشر مع إسرائيل؟([2])
ولقد أدركت إسرائيل بخبثها ومكرها أنّها لن تكسب المعركة حربا أو سلما في نهاية المطاف إلا بتفريق الموقف العربيّ الذي كشفت حرب أكتوبر وما تلاها من التضامن العربيّ عن بعض تداعياته عليها، وأدركت كذلك أنّ زعماء العرب ولاسيما السادات وحسين لديهم الرغبة في حلول منفردة عاجلة، وفهمت دوافع السادات المتمثلة في رغبته العارمة في إحراز مجد كبير بالسبق إلى نصر سياسي في ميدان السلم؛ يضاف إلى نصر أكتوبر في ميدان الحرب، ويجبر ما أصابه من كسور وخروق أوشكت أن تقلبه هزيمة محققة؛ فبدأت المغازلة بين السادات وإسرائيل من عهد قريب جدا بوقف إطلاق النار، وكان كيسنجر هو “تاكسي الغرام!” الذي وصل بسرعة ورشاقة بين “العشيقين الغريمين في آن!”.
وبعدما تحقق لإسرائيل ما أرادت من سحب مصر على بساطها بعيدا عن أخواتها؛ طفقت ترسخ الفرقة بكل الوسائل والأساليب، ففي خضم الأحداث دُعي إلى اجتماع الدول العربية، وجاءت وفود العرب لاجتماع الجامعة العربية، عدا دول الرفض سوريا وليبيا واليمن والجزائر، وفجأة أبلغ السادات وزير خارجيته محمد إبراهيم كامل بأن عيزرا وايزمان سيزور القاهرة اليوم، فجن جنون وزير الخارجية واعترض على السادات إذْ إنَّ مجيء وايزمان في هذا التوقيت يعني تخريب لكل ما تبقى من الثقة بين العرب([3]).
وعندما تأكد لإسرائيل أنّها على الطريق الذي يحقق لها غرضها استمرت في “معركة السلام!” وكان من بنود الصلح ذلك الشرط الذي يرسخ الفرقة بين جميع الأنظمة العربية، ويجعلها جميعا مضطرة لحلول منفردة تفرضها إسرائيل، فالمادة السادسة فقرة 2 تنص على أنّه: “يتعهد الطرفان بأن ينفذا بحسن نية التزاماتهما الناشئة عن هذه المعاهدة؛ بصرف النظر عن أي فعل أو امتناع عن فعل من طرف آخر، وبشكل مستقل عن أي وثيقة خارج هذه المعاهدة”([4]).
وهذا النص هو ذاته الذي اشتملت عليه معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية 1984م([5])، وقد دلت الأحداث اللاحقة بأنّ بند التحييد هذا أثر تأثيرا بالغا على سياسة مصر تجاه العرب؛ حيث لم تكتف حتى بالحياد، بل “أضحت طرفا منحازاً لإسرائيل ضد البلدان العربية، وقد حدث هذا بالفعل أثناء الغزو اليهوديّ للأراضي اللبنانية؛ عندما التزمت مصر بتوريد ما تعاقدت عليه مع إسرائيل من النفط المصريّ الذي استخدمه الجيش الإسرائيليّ وقودا لدباباته التي اجتاحت لبنان!” ([6]).
هذا السلوك كان المقصود منه قبل كل شيء تحييد مصر؛ تمهيدا لالتهام الكيان العربي قطعة قطعة؛ لذلك صدرت بيانات من الدول العربية – التي سارعت اليوم إلى التطبيع – تستنكر فيه معاهدة كامب ديفيد، مثلما جاء في البيان الصادر عن مجلس الوزراء لدولة الإمارات العربية المتحدة في 21/9/1978م وكذلك ما جاء في بيان مجلس الوزراء البحريني 20/9/1978م وما ورد في بيان مجلس الوزراء السعوديّ 19/9/1978م وغيرها من الدول([7]).
صحيح أنّ جميع الأنظمة العربية دخلت الحظيرة، حظيرة النظام الشرق أوسطي الذي تترأسه إسرائيل، لكنّ مفتاح الطريق المشئوم هذا بدأ من ذاك المنعطف الأخطر (كامب ديفيد)، فلولاه ما كانت أوسلوا ولا وادي عربة ولا هذه الموجات العنيفة من التطبيع العربي الإسرائيليّ، ذلك الذي بلغ في النزق والطيش حدودا تذهل العالمين.
فلقد تجاوز الإعلان الثلاثي عن التطبيع الإماراتي مع إسرائيل حدود التراجع العربي الكبير والمستمر في الموقف من القضية الفلسطينية إلى صيغة تحالف مباشر مع العدو الأول للشعوب العربية على حساب القضية المركزية لهذه الشعوب، وفي إطار وتوقيت يسعى لتغليب أدوات تصفية الحقوق الفلسطينية، وفرض الرؤية الأمريكية الإسرائيلية على شعب فلسطين، وتجاوز الموقف الفلسطيني الرافض لهذه الخطة، وذلك من خلال انتقال نظم عربية من خانة الضغط على الفلسطينيين لقبول تسوية مجحفة، إلى الشروع في ترتيب جديد لشكل المنطقة تتحالف فيه هذه النظم مع إسرائيل، وتتبنى مواقف قريبة منها فيما يتعلق بالفلسطينيين وقوى المقاومة في المنطقة التي صنفتها بعض هذه النظم قوى إرهابية، وتصنف معظم رعاتها وحلفائها كخصوم ودول معادية، ومصادر للتهديد([8]).
ولولا كامب ديفيد وما تلاها من التطبيع العسكري المصري الأمريكي لما صعد أمثال السيسي ورفاقه، الذين أخذوا البلاد إلى المنعطف الأخير، ووضعوها على حافة القبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
([1]) ر: مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي – قصتي مع السادات – مكتبة مدبولي الصغير – القاهرة – ط الثالثة 1995م – صــــ114
([2]) ر:السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد – محمد إبراهيم كامل وزير خارجية مصر الأسبق – ط أولى 2002م – مركز الأهرام – صـــ 28
([3]) ر:السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد مصدر سابق ص 188
([4]) اتفاقيتا كامب ديفيد ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل – أحمد علي حسن – مكتبة الآداب – القاهرة – ط الثانية 2012م – صـــ 101
([5]) موقع الجزيرة3/10/2004 – معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية .. أهم البنود ..
([6]) التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيونيّ – غسان حمدان – دار الأمان – بيروت – لبنان – ط أولى 1989م صــــ185
([7]) ر: اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ126 -128
([8]) التطبيع الإماراتي الإسرائيلي .. الجذور والدوافع والآثار – مركز رؤية للتنمية السياسية Send an email8 سبتمبر، 2020 – عرفات الحاج