القواعد المنظمة لحال الضرورة وآثارها السياسية (3)
د . عطية عدلان
لم تُتْرَكْ قاعدةُ “الضرورات تبيح المحظورات” سائبةً من القيود، ولم تُلْقَ كما يُلقى القولُ على عواهنه دون ضبط ولا تقييد، وإنّما ضرب الشرع حولها سياجا من القواعد والضوابط التي تنظم عملها وتمنع الغلو في استعمالها وتعصم من الشطط والانزلاق أثناء التطبيق، كان من هذه القاعد والضوابط ما سبق الحديث عن بعضها، كقاعدة: “الضرورة تقدر بقدرها” وقاعدة: “ما جاز لعذر بطل بزواله”، والآن نكمل حديثنا بذكر قواعد أخرى من تلك القواعد الميقدة المنظمة.
القاعدة السادسة: “إذا زال المانع عاد الممنوع”[1]:
أي: “إذا كان الشيء جائزا ومشروعا، ثم امتنع حكم مشروعيته بمانع عارض، فإذا زال ذلك المانع يعود حكم مشروعيته”[2]، فمثلا: إذا قام مانع من الانضمام إلى حلف معين أو من الاستمرار فيه، بسبب بند من البنود المخالفة لشرع الله جاء في الأثناء أو الابتداء، أو بسبب شرط أضيف للحلف وكان فيه ضرر للمسلمين، وكان الحلف من حيث الأصل جائزا، لكن منع من جوازه هذا البند أو هذا الشرط، فإذا زال المانع شرطا كان أو بندا من البنود عاد الحلف مشروعا لا ممنوعا، وكذلك إذا كان الجهر بنصح حاكم أو عالم أو قائد تعلق به مانع من خوف فتنة أو تهييج عامة أو ما شابه ذلك، ثم زالت هذه الظروف عاد الممنوع مشروعا بل ربما في بعض الأحيان واجبا، فكسر المانع عودة للحكم الأصلي السابق قبل قيام المانع، وكذلك إذا كانت المقاومة المسلحة للأنظمة المنقلبة ممنوعة بسبب ضعف أهل الحق وقلة عددهم، ثم زال المانع بتغير الأحوال وتبدل الأوضاع وامتلاك القوة وغلبة الظن بالظفر عاد الممنوع مباحا أو واجبا بحسب الحال.
القاعدة السابعة: “الميسور لا يسقط بالمعسور”[3]:
أي أنّ الميسور من الأعمال والمقدور عليه منها لا يسقط إذا سقط المعسور من الأعمال بسبب عدم القدرة عليه؛ لأنّ الضرورة التي تبيح ارتكاب المحرم وتسوغ ترك الواجب تقدر بقدرها، فيسقط المعسور من الأعمال ولا يسقط الميسور منها، فإذا سقط واجب الجهاد في مرحلة ما لعدم امتلاك القدرة عليه لم يسقط واجب الإعداد، وإذا لم يستطع المرء إزالة المنكر بيده لعدم استطاعته أزاله بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، والأمثلة على ذلك في ميدان السياسة الشرعية كثير ومتشعب.
ومن تطبيقاتها جواز تولية المفضول عند عدم القدرة على تولية الفاضل، يقول الإمام الجويني: “لا خلاف أنه إذا عسر عقد الإمامة للفاضل، واقتضت مصلحة المسلمين تقديم المفضول، وذلك لصغو الناس، وميل أولي البأس والنجدة إليه، ولو فرض تقديم الفاضل لاشرأبت الفتن، وثارت المحن، ولم نجد عددا، وتفرقت الأجناد بددا، فإذا كانت الحاجة في مقتضى الإيالة تقتضي تقديم المفضول، قدم لا محالة ; إذ الغرض من نصب الإمام استصلاح الأمة، فإذا كان في تقديم الفاضل اختباطها وفسادها، وفي تقديم المفضول ارتباطها وسدادها، تعين إيثار ما فيه صلاح الخليقة باتفاق أهل الحقيقة، ولا خلاف أنه لو قدم فاضل، واتسقت له الطاعة، ونشأ في الزمن من هو أفضل منه، فلا يتبع عقد الإمامة للأول بالقطع والرفع”[4].
ومنها أنّه إن تعذر اجتماع الأمة على إمام واحد تناط بإمامته الحدود وغير ذلك فإنّها تقام بالأئمة أو السلاطين أو الأمراء المتفرقين كل في مكانه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة: لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق؛ ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل؛ وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم وكذلك لو لم يتفرقوا؛ لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة؛ فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك؛ بل عليهم أن يقيموا ذلك؛ وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك: لكان ذلك الفرض على القادر عليه. وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل. كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى؛ أو عاجزا عنها: لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه. والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه. فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها فإنها من ” باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه”[5].
ومنها أنّه إذا عجزت الأمّة عن إقامة نظام الحكم على منهاج الخلافة الراشدة، ولم تستتطع إلا إقامة ملك بصورة أو بأخرى تصان به الدماء وتحفظ به الحرمات أقامته؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور: يقول ابن تيمية: “وتحقيق الأمر أن يقال: انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك: إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة أو اجتهاد سائغ أو مع القدرة على ذلك علما وعملا؛ فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا في ذلك. وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة؛ كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه”[6].
وقد كان إقامة الدولة في مصر وتولية الرئيس الشهيد محمد مرسي رئاستها عن طريق مسار ديمقراطي عملا شرعيا تترتب عليه آثاره الشرعية؛ وكان الرئيس بموجب هذه القاعدة رئيسا شرعيا تجب له الطاعة ويحرم الخروج عليه، برغم أنّ الديمقراطية فيها مخالفة للنظام الإسلاميّ من وجوه عديدة، لكن نظرا لأنه يعسر في هذا الزمان إقامة حكم على منهاج الخلافة الراشدة أو حتى قريبا منه، والميسور هو إقامة حكم كهذا النموذج لكن يتصدى له مسلمون عادلون؛ فالميسور هذا لا يسقط بسقوط المعسور ذاك، ولو تكرر الأمر بنفس الظروف وذات الشروط الواقعية الأليمة لما ساغ للمسلمين إلا أن يفعلوا نفس ما فعلوه، وإن كانوا مطالبين بأن يتخذوا بعض التدابير التي تضمن الصعود بالتجربة إلى أعلى مستوى من العدل يستطاع، مع التحرز من كثير من المواقف والتصريحات التي وقع فيها الرئيس والقريبون منه؛ لكون الضرورة تقدر بقدرها.
ولو صحّ أنّ المقاومة المسلحة للأنظمة المحاربة لدين الله تعالى غير مستطاعة وغير مقدور عليها في هذا الوقت؛ فإنّ هذا المعسور لا يسقط به الميسور وهو واجب الإعداد، الذي يكون بالسعي لامتلاك القوة والتدريب عليها، وفي تربية الناس على الجهاد، وفي تهيئة المناخ لحراكك جديد يأخذ صورة المقاومة بدلا من التظاهر والاعتصام، فالميسور لا يسقط بالمعسور.
القاعدة الثامنة: الاضطرار لا يبطل حق الغير”[7]:
وهذه القاعدة معناها أنّ الاضطرار يبيح ارتكاب المحرم وترك الواجب؛ بمعنى أنّه لا يرتب عليه إثما، لكنْ إن كان ارتكاب المحرم أو ترك الواجب تعلق به حق لإنسان فإنّ هذا الحق لا يسقط وإن سقط الإثم والمؤاخذة في الآخرة، وعلى ذلك فإنّه “لو أصاب إنسان مال الغير بناء على الاضطرار الذي يجوز له التصرف بمال الغير، فلا تكون الإصابة الناشئة عن الاضطرار سببا لأن يكون المتلف غير ضامن، بل يجب على المستهلك أو المتلف أن يضمن قيمة المال المتلف، مثال ذلك: لو أنّ شخصا جاع جوعا شديدا وأصبح عرضة للتلف أي للموت؛ فله الحق – وفقا للمادة 21 – بأن يأخذ من طعام الغير ما يدفع به جوعه بدون إذن صاحب المال، إلا أنه يجب عليه من الجهة الأخرى أن يضمن قيمة المال المتلف، إذا كان من القيميات، ومثله إذا كان من المثليات، ولا يكون الاضطرار على استهلاك ذلك المال سببا للتخلص من دفع قيمته، والحاصل أن الاضطرار وإن أباح للمضطر تناول وإتلاف مال الغير دون أن يترتب عليه عقاب لا يكون سببا للخلاص من الضمان”[8].
الهامش
[1] مجلة الأحكام العدلية م/24
[2] درر الحكام في شرح مجلة الأحكام 1/39
[3] المنثور للزركشي 3/198 – الأشباه والنظائر للسيوطي صـــ 159
[4] غياث الأمم في التياث الظلم (ص: 167)
[5] مجموع الفتاوى (34/ 175-176)
[6] مجموع الفتاوى 35/25
[7] مجلة الأحكام العدلية م/33
[8] درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (1/ 43)
كيف يصير العاملون للإسلام في خندق واحد (7)
كيف يصير العاملون للإسلام في خندق واحد (7)