رَجُلٌ بأُمَّةٍ وأمَّةٍ في رَجُل!
بقلم: عبدالله حسين شعلان
- إنَّ التأمُّلَ في سِيَرِ العظماءِ يَرْفَعُ الهِمَّة، ويُعَجِّلُ بالعملِ لبلوغِ القمَّة، ومِن هؤلاءِ العظماءِ الذين شَرُفْتُ بمطالعةِ سيرتِهم ومَسِيْرتِهم والوقوفِ علىٰ جوانبِ حياتِهم، هذا الجبَل الأشَمّ، والعالِم العامِل، والبحر الزَّاخِر، والمجاهد المُصلِح، فضيلة الشيخ/ محمد الصادق محمد يوسف، ت: 10 مارس 2015م مفتي أوزباكستان الأسبق، والعضو السابق بمجلس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو من كبار علماء الأمة المعاصرين، وكان له دورٌ بارزٌ في الحفاظِ علىٰ انتماءِ شعبهِ للإسلام.
ومِن خلالِ مطالعتي لسيرتِه الزَّاخِرة بجلائلِ الأعمالِ والإنجازات، أحسبُه -واللهُ حسيبُه- اسْمًا علىٰ مُسَمّى؛ فقد لَمَسْتُ فيه صِدْقَ التَّوَجُّهِ وصِدقَ اللَّهجةِ وصِدقَ العملِ للهِ ولدينِه ولسُنةِ نبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
بل كان -كما أحسبُه- صادقًا في دعوتِه حكيمًا في قولِه مُتَّزِنًا وسَطيًّا في طَرْحِه، عالمًا جليلًا وصابرًا مُحتسِبًا، مِن أصحابِ الهِمَمِ العاليةِ والعملِ الدؤوب.
أفْنَىٰ عمرَه في الدعوةِ إلى دينِ اللهِ الحقِّ والرسالةِ المحمديَّةِ تحتَ شعارٍ قيَّدَه في مقدمةِ مؤلفاتِه: "السعيٌ إلىٰ العقيدةِ الصحيحةِ والإسلامِ الصَّافِي علىٰ منهجِ أهلِ السُّنةِ والجماعة، وتعلُّم القرآن والسنة والعمل بهما، ونشر العلوم الإسلامية، واتباع السلف الصالح، والمجتهدين الجهابذة، وبث روح التسامح والأخوة، ومحو الأمية الدينية، والقضاء على الاختلافات والتفرقة التي تمزق الأمة، والتخلي عن التعصب والبدع والخرافات".
- استطاعَ فضيلة الشيخ/ محمد الصَّادق -رحمه الله- في ظِلِّ الحُقبة الشيوعيةِ أن يتحصَّلَ علىٰ العلمِ الشرعيِّ منذُ نعومةِ أظفاره؛ لأنه تربَّىٰ في بيتِ علمٍ شرعيٍّ وسُلاَلَةِ علماء، حتىٰ أَلَمَّ بعلومِ الشريعةِ وهو في ريعانِ شبابهِ، وتمكَّنَ لاحقًا مِن تكوينِ رؤيةٍ إسلاميةٍ ناضجةٍ أهلَتْهُ لأن يقدِّمَ للمكتبةِ الإسلاميةِ في بلدِه أكثرَ مِن مائة مؤلَّفٍ في شتَّىٰ صنوفِ العلم.
- فَسَّرَ فضيلة الشيخ/ محمد الصَّادق -رحمه الله- القرآنَ كاملًا في ستِّ مجلداتٍ، تحت عنوان «تفسير الهلال»، وهو أوَّلُ تفسيرٍ كاملٍ باللغةِ الأوزبكيةِ المعاصرة، وتمكَّنَ مِن ترجمةِ معظمِ الكتُبِ التي كتبتْ في الوسطيةِ إلى عدَّةِ لغات، وكان طَموحًا في المشاريعِ العلميَّة، وله إنجازاتٌ علميةٌ كبيرةٌ في خدمةِ كتبِ الصِّحَاح الستة.
- استَطَاعَ فضيلة الشيخ/ محمد الصَّادق -رحمه الله- خلالَ مَسِيرتِه العلميَّة أن يُنشِئَ مؤسَّسَةً علميةً لنشرِ العلومِ الشرعيَّةِ وتخريجِ الدُّعاةِ والعلماء، واهتمَّ بنشرِ العلمِ الشرعيِّ عند النساء في بلاده، وكان بيتُه قِبْلَةً لطلابِ العلم، وكان -رحمه الله- قياديًّا من الطرازِ الأوَّل له هيبتُه وجهودُه ليسَ في أوزبكستان فحسَب، بل في كلِّ الجمهورياتِ الإسلاميَّةِ بآسيا الوسطىٰ، وكان معلِّمًا وشيخًا لكلِّ العلماءِ والمشايخِ في الإداراتِ الدينيةِ هناك، وكان مَرْجِعًا لهم في كلِّ الأمورِ المتعلقةِ بالإسلام.
- كانَ الشيخُ/ محمد الصَّادق -رحمه الله- مُحِبًّا لوطنِه حريصًا علىٰ أمْنِهِ وأمانِه، وتركَ الشيخُ بصماتٍ كبيرةٍ في بلاده وساهمَ في إحداثِ نهضةٍ علميةٍ غير مسبوقةٍ أثرَتْ في الجمهورياتِ الإسلاميةِ بأسْرِها، وكان -رحمه الله- بمثابةِ صِمامِ أمانٍ لمجتمعهِ؛ إذْ وقفَ بحزمٍ وقوةٍ في وجه دعواتِ التشدُّدِ والتطرفِ التي كادتْ أن تُمَزِّقَ المجتمعاتِ المسلمةِ هناك، ولمَّا وشَىٰ به بعضُ المغرضينَ لدىٰ السلطاتِ هناك وزعموا أنَّ له طموحًا سياسيًا لمَّا رأوا سيرتَه وشعبيتَه والتفافَ الناسِ حولَه؛ آثرَ السلامةَ وخرجَ مِن البلادِ حتىٰ لا تحدثَ فتنةَ الاقتتالِ بين محبِّيِه مِن تلاميذِه ومُريديه وبين الطرف الآخر الذين أساءوا فهمَه وصَدَّقوا الوشاية، فهاجرَ إلى مكةَ وعكفَ علىٰ التأليفِ هناك ونشَرَ منهجَه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والهدوءِ وحافظَ علىٰ تلاميذه من الانجرارِ إلىٰ العنفِ أو التَّطرُّفِ وضبطِ الحماسِ لديهم.
- ولمَّا رَأَتِ القِيَادةُ السِّياسيةُ الفجوةَ التي حدثتْ في أوزبكستان في غيابِ الشيخِ وظهورِ المتطرفينَ وانتشارِهم، ولمْ تجدْ معهمُ الكثيرَ مِن الوسائل؛ طالبوه بالرجوعِ ليمارسَ دعوتَه ومِنهاجَه الوسَطي، وبعد أن رجعَ الشيخُ ولبَّىٰ نداءِ الوطنِ وواجَه أصحابَ الفكرِ المنحرفِ استطاعَ -بتوفيقِ اللهِ تعالى- أن ينزِعَ فتيلَ الأزمةِ التي كادت أن تسببَ مشكلاتٍ كبيرةٍ للمسلمينَ هناك، ولم تقم للمتطرفين هناك قائمة بعدما انتشرتْ كُتُبُ الشيخِ ومحاضراتِه ومناظراتِه ودعوتِه المباركة وأقبلَ الناسُ عليها إقبالًا منقطعَ النَّظِير.
- وبعدُ: فهذه نبذةٌ يسيرة، وغيضٌ مِن فِيْض، وقطرةٌ مِن بحر مِن حياةِ وآثارِ وخدماتِ وإنجازاتِ هذا العَلَم المُصلِح، النَّافع لدينه ووطنه، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وقيَّضَ للأمةِ رجلًا مثلَه يحملُ أعباءها، ويسعىٰ في مصلحتِها وفلاحِها في الدنيا والآخرة؛ اللهم آمين!