مكتبات العلماء المعاصرين ومصيرها
الشيخ / عصام تليمة
ندر أن يخلو بيت عالم من العلماء من مكتبة علمية كبرت أم صغرت، سواء كان هذا العالم ممن رزقهم الله موهبة الكتابة أم لا، وسواء كان مكثرا من الكتابة والتأليف أم مقلا، وللكتب والمكتبات في حياة العلماء وبعد وفاتهم قصص ومواقف، لكن ما يهمنا الآن، هو مآل ومصير هذه المكتبات حال وفاة العالم، أو المفكر والكاتب المعاصر.
بعض هذه المكتبات يحسن صاحبها التفكير في مصيرها، فيخطط لها كيف وأين يتم الانتفاع بها في مكتبة عامة، أو يهبها لطلبة العلم، سواء للمقربين من تلامذته، أو يفرقها عليهم، أو يوصي بما ينفع الناس بها، بالوسيلة والطريقة التي يراها، أو ينصحه بها أحد الناصحين.
لكن غالب أصحاب مثل هذه المكتبات الخاصة من العلماء والمفكرين تدركه الوفاة فجأة، أو بعد مرض سريع، لم يدر بخلد الشخص وقتها أنه مرض الوفاة، ولو أدرك، فيكون تفكيره في مساحة غير تفكيره في كتبه ومقتنياته، ولذا يفوته التخطيط السديد في شأنها.
وغالب هذه المكتبات معروف مصيرها، إنها تذهب لباعة الكتب، وتكون الخسارة الفادحة حينما يبتلى صاحب الكتب بورثة لا يعرفون قيمة ما خلف أبوهم أو مورثهم من كنوز علمية، لا تقيم بمال، وعند تقييمها تباع بالكيلو غرام، وربما بالطن، كأي أوراق ملقاة في صناديق القمامة، إن لم تلق بالفعل في القمامة كما رأيت بعض حالات منها.
وقد وجد صديقنا المرحوم الدكتور صلاح حنطاية مجلة (الكتاب)، وهي مجلة مصرية قديمة كانت تصدر في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، وبداية النصف الثاني، وكان يكتب فيها عمالقة الأدب والفكر، وكتب فيها الأستاذ سيد قطب معظم مقالاته التي جمعت في رسالة بعنوان: (أفراح الروح)، وقد كانت رسائل لأخته عندما كان مبتعثا في أمريكا. وفيها مقالات للعقاد، وزكي نجيب محمود، وعدد كبير من عمالقة الفكر والأدب والفن في العالم العربي، هذه المجلة النادرة، وجدها صديقنا في صندوق قمامة، مجلدة تجليدا فخما، فأخذها، ثم أعطانيها بعد أن شبع منها قراءة واطلاعا.
هذه المكتبات يحسن صاحبها التفكير في مصيرها، فيخطط لها كيف وأين يتم الانتفاع بها في مكتبة عامة، أو يهبها لطلبة العلم، سواء للمقربين من تلامذته، أو يفرقها عليهم، أو يوصي بما ينفع الناس بها، بالوسيلة والطريقة التي يراها، أو ينصحه بها أحد الناصحين.
ومن لديه هواية البحث عن الكتب القديمة مثلي، سيجد أنه يعثر بين الحين والآخر، على كتب عليها إهداء من المؤلف، وقد اشتريت نسخة من كتاب (المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود) للشيخ محمود خطاب السبكي رحمه الله، وهو شرح رائع ومهم لسنن أبي داود لم يكتمل، كتبه إلى الجزء العاشر منه، إلى باب الزكاة؛ دون تكملة، وحاول نجله الشيخ أمين خطاب تكملته ولم يكتمل، وجدت مكتوبا على هذه النسخة وهي الطبعة الأولى من الكتاب في ثلاثينيات القرن العشرين، وقد كتب عليها صاحبها: أوصي ورثتي بعدم بيع هذه النسخة، وأن تظل تتوارث بينهم، ومع ذلك فقد بيعت، وانتقلت من يد ليد، حتى وصلت ليدي بعد سنوات طويلة من وفاة صاحبها.
وقد يضطر صاحب المكتبة إلى بيعها في حياته، وهنا تكون الفاجعة لصاحبها، وقد صادفت ذلك في بعض النسخ، فعندما كنت طالبا في كلية الدعوة، اشتريت كتاب: (أسد الغابة في معرفة الصحابة) لابن الأثير، طبعة دار الشعب بمصر، وكان على كعب الكتاب اسم صاحبها، وهو دكتور جامعي معروف وقتها، وقد طلب مني البائع بناء على رغبة الدكتور أن أمحو اسمه بأي آلة حادة، حتى لا يسبب ذلك حرجا له، وقد كان!!
قليل من المكتبات تذهب لمكتبات عامة، حيث يدرك أصحابها أهمية ذلك، بعد أن يرى أن لا وارث له في مجال البحث العلمي، أو في الاهتمام بالعلم والكتب، وقد رأينا في ذلك بعض هذه المكتبات، مثل: مكتبة أحمد تيمور، ومن زار دار الكتب المصرية، وقسم الوثائق فيها، سيجد في المكتبة فهرسين، فهرس للدار ومقتنياتها، وفهرس آخر لمقتنيات الدار من مكتبة أحمد باشا تيمور، فتم الحفاظ على تراث الرجل، وممتلكاته من الكتب والنوادر العلمية.
وكذلك كانت لدى الشيخ الألباني رحمه الله مكتبة هائلة، وبخاصة المخطوطات في علم الحديث وغيره، وقد أوصى بأن توهب كل كتبه لمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، رغم ما كان من خلاف بينه والجامعة قبل تركه لها، فرحمه الله، ورزقه أجر وفائه للعلم وأهله.
ومن هذه المكتبات: مكتبة شيخنا وأستاذنا الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله، وكانت مكتبة زاخرة، مملوءة بالكتب النادرة والمهمة، والمخطوطات، والديب رحمه الله عاش مهتما بتراث الإمام الجويني، ونشر جل كتبه وأهمها مثل: الغياثي، ونهاية المطلب، وبعد وفاته أحسن ورثته التصرف في مكتبته، ولم يكن قد أوصى بها لأحد خاصة، فأهدوها لمكتبة الجامعة الإسلامية في غزة.
وكذلك مكتبة العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله، وهو شيخ شيوخنا وأساتذتنا القرضاوي والغزالي وغيرهما، وقد كانت ضليعا في الفرنسية، وقد حدثني المرحوم الشيخ أحمد فضلية أحد من اهتموا بتراث دراز، أن ابنه السفير فتحي دراز، اتصل به، ولما ذهب إليه، قال له: انظر ماذا تريد من مكتبة الوالد، لأننا سنهديها لمكتبة الإسكندرية، وفوجئ أن المكتبة نصفها كتب بالعربية، والنصف الآخر تماما كتب باللغة الفرنسية، ولأن صديقنا لا يعلم الفرنسية، فأخذ ما يحتاج من الكتب العربية، ودراز عالم كبير، لا شك أن اختياراته للكتب الفرنسية ستكون ذات أهمية، لعل أحدا لو ذهب واطلع، سيجد أن هذه الكتب من خير ما ينتقى للترجمة، لمن يبحث عن ترجمة كتب مهمة من اللغات الأجنبية للعربية.
وهناك مكتبات مات أصحابها ولا نعلم مصيرها للأسف، مثل مكتبة: عباس محمود العقاد، وقد اشتريت مرة كتابا، وجدت فيه صورة خاصة للعقاد مع آخرين، ولا أعلم هل الصورة والكتاب من مكتبته أم لا؟ والعقاد رجل يقرأ ويكتب بشكل مستمر دائم غير منقطع طوال حياته، وقد قال عنه أنيس منصور: إنه قرأ خمسة آلاف كتاب، فأين هي؟ لا نعلم.
وهناك مكتبة الدكتور محمد كمال إمام رحمه الله، وقد توفي منذ شهور، وقد كان معنيا بجمع الكتب النادرة قديما وحديثا، ولا يذهب لبلد إلا وزار مواقع بيع وشراء الكتب، واقتنى أنفس ما يجد، وقد رأينا بعض آثار مقتنياته، في كتاب أصدرته دار الإفتاء المصرية، جمع فيه إمام رحمه الله كل ما كتبه علماء الأزهر في السياسة الشرعية في النصف الأول من القرن العشرين، فدل على ما في مكتبة الرجل، ولا نعلم ما اتخذه ورثته بشأنها.
وبعض الورثة يتخذ موقفا عقابيا لصاحب الكتب، إذا خالفت فكرهم وتوجههم، وهو ما حدث مع مكتبة الأستاذ جمال البنا رحمه الله، والبنا تتفق أو تختلف معه في آرائه وفكره، لكن لا يمكن لأحد أن يتحدث عن عمالة الرجل، أو سوء نيته فيما كتب، أو أن أفكاره كانت تعبيرا عن ميل للشرق أو الغرب، هي أفكاره فقط، صحت أم أخطأت، ولذا كان من الغريب ما اتخذته أسرته من قرار بإغلاق شقته التي فيها كتبه، وعدم إطلاع أحد عليها، ولا إخراج أي نسخ منها، وقد كان يعيش في شقة متواضعة جدا وحيدا في شارع الجيش، مع فريق عمله، ولم يتزوج، وبغض النظر عن الموقف من فكر الرجل، فيظل ما تركه من مكتبة مهم للاطلاع لأهل البحث والعلم.
أما أضخم مكتبة خاصة رأيتها، فهي مكتبة شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي، حيث يحرص الكثيرون على إهدائه المؤلفات سواء من دور النشر، أو من المؤلفين، والقرضاوي بطبيعته قارئ وكاتب لا يكل ولا يمل ـ ما شاء الله لا قوة إلا بالله ـ من القراءة والكتابة، ولذا تكونت لديه مكتبة ضخمة، أرجئ الحديث عنها لمقالي القادم إن شاء الله، وما نواه القرضاوي من عمل فيها حتى ينتفع بها الناس.