البحث

التفاصيل

المضامين والمفاهيم والأهداف المركزية الحاملة للرؤية التربوية القرآنية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبيّ الهُدى والرحمة المهداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

سلسلة إضاءات إيمانية: الحلقة الثامنة

د.عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين     

2. المضامين والمفاهيم والأهداف المركزية الحاملة للرؤية التربوية القرآنية:

تُسْتَمَدُّ مضامين النموذج التربوي في القرآن الكريم من أصلين كبيرين في الإسلام هما: كتاب الله تعالى والسنة النبوية الشريفة. وتندرج هذه المضامين القرآنية ضمن محورين كبيرين هما:

المحور الأول: ويشمل العقيدة والعبادات والمعاملات.

المحور الثاني: ويشمل الآداب والأخلاق والسلوك.

إن مضامين هذا النموذج التربوي في القرآن الكريم تشكل مادة تربوية تمثل الأصول الكلية التي تستمد منها الأحكام، وتستنبط منها التشريعات والقوانين المنظمة لحياة الإنسان، على المستويات الفردية والأسرية والمجتمعية والدولية والكونية. بالإضافة إلى كونها تتضمن حقائق ومعلومات وأحداثا ووقائع تشكل في مجموعها نسقا معرفيا شموليا يمكن الإنسان من بناء تصور نظري صحيح وسليم حول الوجود والإنسان والعلاقات والكينونة البشرية في تفاعلها مع الذات والموضوع والمحيط والبيئة.

إن القرآن الكريم يخاطب في مضامينه العقل والقلب، ومن خلالها يرسل رسالات مشفّرة إلى منطقة الإحساس والمشاعر، ليحصل التأثير الإيجابي الفعال الذي يجعل الإنسان يولد من جديد، فينخرط في الصف الذي ارتضاه الله تعالى لعباده المكرمين، صفّ الدّعاة المربين الربانيين، الحاملين مشعل رسالة القرآن الكريم إلى الأجيال والأمم، في كل الأزمان والأمكنة والأصقاع، على مر العصور والقرون والأزمان، يقول تعالى : ﴿ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضربُ الله الأمثالَ للناسٍ لعلّهم يتذكّرون﴾ إبراهيم : 26ـ27. جاء في تفسير ابن كثير أن الكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد "لا إله إلا الله". وهي كلمة الإيمان الحق التي تترسّخ في قلب المؤمن، بينما الكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر والشرك بالله التي لا أصل لها ولا ثبات . إن مضمون الخطاب هنا يمثل أصلا كليا شاملا لكل التفاصيل والجزئيات والوقائع المنبثقة عنه. ذلك أن العمل الصالح لابد أن يكون موجّها بهذا الأصل الذي يمثل في الآية الكريمة "الكلمة الطيبة"، كلمة الإيمان والتوحيد. ويشمل ذلك أعمال القلوب وأعمال الجوارح، حتى يكون عملا صحيحا مقبولا عند الله تعالى. إن مجموع الخطاب القرآني على هذا المستوى - مستوى المضامين -يمكن تحديده في صنفين كبيرين عريضين هما:

1. الصنف الأول: الأوامــر.

2. الصنف الثاني: النواهــي.

وكل صنف من هذين الصنفين يحتوي على موضوعات وقضايا، منها ما هو أصلي كلي ومنها ما هو جزئي تفصيلي. فمثلا قوله تعالى: ﴿إن الله يامُرُ بالعَدْلِ والإحسـ'ـانِ وإيتاءِى ذِي القُرْبَى ويَنْهَى عن الفَحْشَاء والمُنْكَرِ والبَغْيِ يعِظُكُم لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ﴾ النحل: 90. فالآية الكريمة تتضمن قضيتين كبيرتين تمثلان أصلا كليا في كل تفاصيل الحياة البشرية وهما: قضيتا العدل والإحسان. فكل الأعمال التي يقوم بها الإنسان تندرج تحت هاتين القضيتين الأساسيتين، فالأقوال والأعمال والعلاقات بين الناس، والمصالح المتبادلة بينهم في الحياة الخاصة أو الحياة العامة، كلها تدخل في صميم العدل والإحسان، لأن هاتين القضيتين الكبيرتين مطلوبتان. ولذلك أمر الشرع الحكيم بهما. ثم تأتي بعد ذلك قضيتان كبيرتان أخريان هما: الفحشاء والمنكر اللتان تشملان كل المفاسد والأعمال القبيحة التي نهى الله تعالى عنها في الاعتقاد والعبادة والمعاملات والأخلاق والسلوك، على المستويات الفردية والمجتمعية والإنسانية .

ولئن كانت مضامين القرآن الكريم تتوزّع على هذين المحورين الأساسيين المشار إليهما فوق وهما: الأوامر والنواهي، فإنها أيضا ترتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم العمل في الإسلام. يقول تعالى: ﴿وقل اعْمَلوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ﴾ التوبة: 106. ويعدّ العمل طرفا أساسيا في معادلة التربية الإيمانية، لأنه يأتي دائما مقرونا بالإيمان الحق. يقول تعالى: ﴿وَالذينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصّالـحات أولَئِكَ أصْحـاب الجنّة هُمْ فيها خَـالِدُونَ البقرة: 81. ويقول عز وجل أيضا: ﴿إنَّ الذينَ ءامَنوا والذينَ هَادُوا والنَّصَـارى' والصّـابينَ مَنَ ـ امَنَ بالله واليوم الآخِرٍ وعَمِلَ صَـالِحًا فَلَهُم أجْرهم عند ربِّهِم ولا خَوْفٌ عليْهِم ولا هم يَحْزَنُون﴾ البقرة: 61. إن حصيلة العمل في القرآن الكريم ترتبط أيضا بالمآلات والنهايات التي ينتهي إليها ذلك العمل، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يُجمع خَلقُه في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلَك فينفخ فيه الرّوح، ويُؤْمَر بأربع كلمات: بِكَتْبِ رزقه وأجَله وعَمَله وشقي أو سعيد. فوالله الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلَها. وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» أخرجه البخاري ومسلم . من هاهنا تبرز قضية أساسية ونحن نتكلم عن النموذج التربوي في القرآن الكريم، وهي التي ترتبط بحقيقة السعي في الحياة الدنيا، وأن هذا السعي مرهون بنهايته وخاتمته، وليس بمقدماته وبداياته «فالعمر بآخره والعمل بخاتمته، من أحْدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومَنْ أفْطَر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعا، ومن أساء في آخر عمره لقى ربه في ذلك الوجه». لذلك تعتبر هذه القضية محورية في تنشئة الفرد المسلم على ألا يفتر، ولا يضعف في المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها، وأن يجتهد دائما في تحصيل الأحسن والأفضل والأخْيَر، لتكون النهاية أفضل وأثمر من البداية، فالله جل وعلا «أخَّر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيرا من الأولى، والنهايات أكمل من البدايات، فكم بين قول المَلَك للرسول: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، وبين قوله تعالى: ﴿اليوم أكملتُ لكم دينكُم المائدة: 4» . إن هذه المضامين التي مثلنا لها ببعض الآيات البيّنات من الذكر الحكيم تتأطّر داخل أهداف كبرى ترسم لنا خارطة طريق الهدى والإيمان. ويمكن إدراجها في المحاور الكبرى التالية:

1) تعظيم الله تعالى وعدم الإشراك به.

2) توحيد الخالق عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته.

3) الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.

4) الإيمان باليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره.

5) تعظيم شعائر الله تعالى والمحافظة عليها في العبادات والمعاملات.

6) التحلي بالآداب الرفيعة التي أمر بها الشرع الحكيم.

7) التخلق بالأخلاق الإسلامية الفاضلة.

8) الابتعاد عن الأخلاق القبيحة المذمومة التي نهى الشرع الحكيم عنها.

9) تزكية النفس بالإقبال على الطاعات والقربات، وتحقيق معاني الأخوة الإيمانية والاجتماعية وممارسة حقوقها في الواقع العملي.

10) تعميق الصلة بكتاب الله تعالى تلاوة وحفظا وفهما وتدبّرا وعملا ودعوة وتعليما وتعلّما.

11) بناء شخصية الفرد المسلم بناء رساليا إحسانيا متينا على المستويات العقلية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية والعلمية إلخ..

إن هذه الأهداف الكبرى تؤسس للفرد المسلم قاعدة إيمانية ينبني عليها مشروعه الدعوي والتربوي، فيصبح القرآن من خلال أوامره ونواهيه، وأحكامه وتشريعاته ومواعظه وقصصه، يصبح كل ذلك نبراسا ينير طريق الفرد المسلم. ويرتقي في معراج التربية الإيمانية، «من هنا كان الحثّ في القرآن والسنّة على ضرورة المداومة على تلاوة القرآن، حتى يتحقق مقصوده العظيم بتحصيل العلم والإيمان، والترقي في مدارج السائرين إلى الله» . فاللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، واختم لنا بالحسنى، واحشرنا اللهم مع الذين أنعمت عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وصلى الله وسلّم على نبينا المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                          يتبـــــــــع

 

([1])  تفسير القرآن العظيم : ابن كثير، 4/344 ـ 345.

([2])  الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية :  د. أحمد الريسوني، ص. 25.

([3])  الأربعين حديثا النووية : النووي، بشرح الشيخ عبد المجيد الشرنوبي الأزهري، ص. 24.

([4])  الفوائد، ابن قيّم الجوزية، ص. 68.

([5])  الفوائد، نفسه، ص. 69.

([6])  نظرات في التربية الإيمانية، مجدي الهلالي، ص. 140.





التالي
فرع فلسطين يختتم المخيم الدعوي التدريبي الأول تحت شعار" الكلمُ الطيب" للأخوات
السابق
مواصفات رجل الدِّبلوماسية الإسلامية..!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع