افتراءات الرئيس الفرنسي ماكرون على الدولة العثمانية.. وكذبة احتلالها للجزائر
بقلم: د. علي محمد الصلابي
لم يكن الوجود العثماني في الجزائر وجود تغلغل قومي، أو غزو عسكري غاشم لتحقيق أغراض ومصالح دوْلية سواء أكانت عسكريةً، أو سياسية، أو اقتصادية...، بل كان وجودَ خلافة إسلامية مجيدة، وإمبراطورية عظيمة، قد التفت حولها -آنذاك- الدول والحضارات وكونت في ظلها راية واحدة، هي راية الإسلام؛ الحاميةُ، وليست المعتدية، والبانية وليست الهادمة.. ولم يكن وجودها في الجزائر آنذاك استعماراً محَتْ آثارَه العلاقاتُ التركية الجزائرية الحديثة، -كما وصف رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون-، فإنه قال صراحة بمحاولة رخيصة، وبنبرة ساخرة: "أنه مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها هناك"، في إشارة منه إلى الإمبراطورية العثمانية" وهذه دعوى منافية للحقائق العلمية، والوقائع التاريخية؛ فإن دخول الدولة العثمانية دولة الجزائر كان دخول دولة استجابت لصرخات الجزائريين استغاثةً بها من بطش نصارى الإسبان وحلفائهم، كما سنعرض له في ثنايا البحث.
اختلف علماء التَّاريخ حول بداية التَّحالف بين العثمانيِّين، والأخوين عروج، وخير الدِّين، فتذكر بعض المراجع: أنَّ السلطان سليم الأول كان وراء إِرسالهما إِلى السَّاحل الأفريقي تلبيةً لطلب المساعدة من سكان الشَّمال الأفريقي، وعملاً على تعطيل أهداف البرتغاليِّين، والإسبان في منطقة البحر المتوسِّط. وعلى الرَّغم من عدم تداول هذه الرِّواية بين المؤرِّخين إِلا أنَّها توضح: أنَّ العثمانيِّين لم يكونوا بمعزلٍ عن الأحداث التي تدور على ساحة البحر المتوسِّط.
ويُرجع بعض المؤرِّخين التَّحالف بين الجانبين إِلى سنة 1514م في أعقاب فتح عروج، وخير الدِّين لميناء «جيجل» حيث أرسل الأخوان إِلى السُّلطان سليم الأوَّل مجموعةً من النَّفائس الَّتي استوليا عليها بعد فتح المدينة، فقبلها السُّلطان، وردَّ لهما الهديَّة بإِرسال أربع عشر سفينةً حربيَّةً مجهَّزةً بالعتاد، والجنود، وكان هذا الردُّ من السُّلطان العثمانيِّ يعكس رغبته في استمرار نشاط دور الأخوين، ودعمه، على أنَّ بعض المؤرِّخين يذكرون: أنَّ الدَّعم العثمانيَّ لهذه الحركة كان في أعقاب وفاة «عروج» سنة 1518م وبعد عودة السُّلطان العثماني من مصر إِلى إستانبول سنة 1519م. (الدولة العثمانيّة دولةٌ إسلامية 2/909)
على أنَّ الرَّأي الأكثر ترجيحاً: أنَّ الاتصالات بين العثمانيِّين وهذه الحركة كان سابقاً لوفاة عروج، وقبل فتح العثمانيِّين للشَّام، ومصر، وذلك يرجع إِلى أنَّ الأخوين كانا في أمسِّ الحاجة لدعمٍ، أو تحالفٍ مع العثمانيِّين بعد فشلهما في فتح «بجاية»، كما أنَّهما حوصرا في «جيجل» بين الحفصيِّين الَّذين أصبحوا من أتباع الإسبان، وبين «سالم التومي» حاكم الجزائر الَّذي ارتكز حكمه على دعم الإسبان له هو الآخر، فضلاً عن قوَّة الإسبان، وفرسان القدِّيس يوحنَّا الَّتي تحاصرهم في البحر؛ فكان لوصول الدَّعم العثماني أثره على دعم دورهما، وشروعهما في دخول الجزائر برغم هذه العوامل، حيث اتَّفق العثمانيُّون مع الأخوين على ضرورة الإِسراع بدخولهما قبل القوات الإسبانيَّة لموقعها الممتاز من ناحية، ولكي يسبقوا الإسبان إِليها، لاتِّخاذها قاعدةً لتخريب الموانئ الإِسلاميَّة الواقعة تحت الاحتلال الإسباني كبجاية، وغيرها من ناحيةٍ أخرى.
وقد تمكَّن «عروج» من دخول الجزائر بفضل هذا الدَّعم، وقتل حاكمها بعد أن تأكَّد من مساعيه للاستعانة بالقوَّات الإِسبانيَّة، كما تمكن من دخول ميناء شرشال، واجتمع له الأمر في الجزائر، وبويع في نفس السَّنة الَّتي هُزمت فيها القوَّات المملوكيَّة أمام القوات العثمانيَّة في الشَّام سنة 1516م في موقعة مرج دابق. (حرب الثلاثمئة بين الجزائر وإسبانيا، ص 174، 175).
ولم يكن من الممكن للأخوين أن يقوما بهذه الفتوحات لولا تشجيع السُّلطان العثمانيِّ، ودعمه إِلى جانب دعم شعوب المنطقة، وقد سبق أن فشلا في دخول بجاية أمام نفس القوَّات المعادية. (قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 58)
بعد أن بويع «خير الدِّين» في الجزائر في أعقاب ما حقَّقه من انتصاراتٍ على الإسبان، والزُّعماء المحلِّيِّين المتحالفين معهم، أصبح محطَّ آمال كثيرٍ من الولايات، والموانئ الَّتي كانت ما زالت خاضعةً سواءٌ للإسبان، أو لعملائهم، وكان أوَّل الذين طلبوا نصرته أهل تلمسان. ومع أنَّ استنجاد الأهالي كان من الممكن أن يكون كافياً لتدخل «خير الدِّين» إِلا أنَّ موقع تلمسان الاستراتيجيِّ؛ الذي كان يجعل وجود «خير الدِّين» في الجزائر غير مستتبٍّ، قد جعله يفكِّر في التَّدخُّل قبل أن يطلب الأهالي نجدته، وأن مطالبهم قد دعته للتَّعجيل بذلك.
وأعدَّ «خير الدِّين» جيشاً كبيراً زحف به إِلى تلمسان سنة 1517م، وأمَّن الطَّريق إِليها، وبعد أن نجح في السَّيطرة عليها تمكَّن الإسبان، وعملاؤهم من بني حمود، من استعادتها ولقي أحد إِخوة «خير الدِّين» حتفه، وهو «إِسحاق»، كما قتل «عروج» وكثيرون من رجاله أثناء حصارهم للمدينة، ذلك الحصار الَّذي امتدَّ لستة أشهرٍ، أو يزيد؛ امتدَّ حتَّى سنة 1518م.
وقد تركت هذه الأحداث أثراً بالغاً في نفس خير الدِّين؛ ممَّا دفعه إِلى التَّفكير في ترك الجزائر لولا أنَّ أهلها ألحُّوا عليه بالبقاء. وكانت موافقته على البقاء تفرض عليه ضرورة بذل المزيد من الجهد؛ خشية أن يهاجمه الإسبان، ومؤيِّدوهم، كما أنَّ ذلك أدَّى إِلى اتجاهه إِلى مزيدٍ من الارتباط بالدَّولة العثمانيَّة، وبخاصَّةٍ بعد أن والت لها مصر، والشَّام، فكان ذلك يؤكِّد احتياج الجانبين إِلى مزيدٍ من الارتباط بالآخر.
- سكان مدينة الجزائر يرسلون رسالة استغاثةٍ للسُّلطان سليم الأوَّل:
قام الأستاذ الدُّكتور عبد الجليل التَّميمي بترجمة وثيقةٍ تركيَّةٍ محفوظةٍ في دار المحفوظات التَّاريخية بإستانبول ـ طوب قابي سيراي ـ تحت رقم 4656، وهذه الوثيقة عبارةٌ عن رسالةٍ موجَّهةٍ من سكَّان بلدة الجزائر على اختلاف مستوياتهم، ومؤرَّخةٍ في أوائل شهر ذي القعدة عام 925هـ، في الفترة من 26 من شهر أكتوبر (تشرين الأوَّل) إِلى 3 من شهر نوفمبر (تشرين الثَّاني) عام 1519م، وكتبت بأمر من خير الدِّين إلى السُّلطان سليم بعد عودته من مصر، والشَّام إِلى إستانبول، وكان الغرض من تلك الرِّسالة ربط الجزائر بالدَّولة العثمانيَّة. وجاء في الرِّسالة أنَّ خير الدِّين كان شديد الرَّغبة في أن يذهب بنفسه إِلى إستانبول ليعرض على السُّلطان سليم الأوَّل شخصياً أبعاد قضيَّة الجزائر. ولكنَّ زعماء مدينة الجزائر توسَّلوا إِليه أن يبقى فيها؛ كي يستطيع مواجهة الأعداء إِذا تحرَّكوا. وطلبوا منه أن يرسل سفارةً تقوم بالنِّيابة عنه، وكانت الرِّسالة الَّتي حملتها البعثة موجهةً باسم القضاة، والخطباء، والفقهاء، والأئمَّة، والتُّجار، والأعيان، وجميع سكان مدينة الجزائر العامرة، وهي تفيض بالولاء العميق للدَّولة العثمانيَّة، وكان الَّذي يتزعَّم السَّفارة «الفقيه العالم الأستاذ أبو العباس أحمد بن قاضي» وكان من أكبر علماء الجزائر، كما كان قائداً عسكريَّاً، وزعيماً سياسياً، وكان بمقدوره أن يصور أوضاع بلاده، والأخطار الَّتي تحيط بها من كلِّ جانب.
وقد أشاد الوفد بجهاد «عروج» في مدافعة الكفار، وكيف كان ناصراً للدِّين، وحامياً للمسلمين، وتكلَّموا عن جهاده؛ حتَّى وقع شهيداً في حصار الإسبانيِّين لمدينة تلمسان، وكيف خلفه أخوه «المجاهد في سبيل الله أبو التُّقى خير الدِّين». وكان له خير خلف، فقد دافع عنا، ولم نعرف منه إِلا العدل، والإِنصاف، واتِّباع الشَّرع النَّبويِّ الشَّريف، وهو ينظر إِلى مقامكم العالي بالتَّعظيم، والإِجلال، ويكرِّس نفسه، وماله للجهاد لرضاء ربِّ العباد، وإعلاء كلمة الله، ومناط آماله سلطنتكم العالية مُظهراً إِجلالها، وتعظيمها. على أنَّ محبَّتنا له خالصةٌ، ونحن معه ثابتون، ونحن، وأميرنا خدَّام أعتابكم العالية، وأهالي إقليم بجاية، والغرب، والشَّرق في خدمة مقامكم العالي، وإِنَّ المذكور حامل الرِّسالة المكتوبة سوف يعرض على جلالتكم ما يجري في هذه البلاد من الحوادث، والسَّلام). (الدولة العثمانية دولةٌ إسلامية 2/910)
إِنَّ الرسالة السَّابقة تُبيِّن للباحث آراء الجزائريين تجاه الدَّولة العثمانيَّة، وكان من تلك الآراء:
- أنَّ خير الدِّين يمثل الحاكم المسلم الأمثل في شمال أفريقية، فهو يحترم، وينفِّذ مبادئ الشريعة الإِسلاميَّة، ويتَّخذ من العدل شرعةً، ومنهاجاً له في الحكم.
- أنَّ نشاطه يتركَّز في قيادة عمليات الجهاد ضدَّ النَّصارى.
- أنَّه يُكِنُّ للدَّولة العثمانيَّة وسلطانها كلَّ تقديرٍ، واحترام.
- تدلُّ الرسالة على تماسك الجبهة الدَّاخلية، ووضوح الهدف أمام مسلمي الجزائر.
- استجابة السُّلطان سليم الأوَّل لأهل الجزائر:
سارع السُّلطان سليم إِلى منح رتبة بكلربك إِلى خير الدِّين بربروسة، وأصبح القائد الأعلى للقوَّات المسلَّحة في إقليمه ممثِّلاً للسُّلطان، وبذلك أصبحت الجزائر تحت حكم الدَّولة العثمانيَّة، وأصبح أي اعتداءٍ خارجيٍّ على أراضيها يعتبر اعتداءً على الدَّولة العثمانيَّة، ودعم السُّلطان سليم هذا القرار بقراراتٍ تنفيذيَّة؛ إِذ أرسل إِلى الجزائر قوَّةً من سلاح المدفعيَّة، وألفين من الجنود الإِنكشاريَّة، ومنذ ذلك الوقت (1519م) بدأ الإِنكشاريُّون يظهرون في الحياة السِّياسيَّة، والعسكريَّة في الأقاليم العثمانيَّة في شمال أفريقية، وأصبحوا عنصراً بارزاً ومؤثِّراً في سير الأحداث بعد أن كثر إِرسالهم إِلى تلك الأقاليم، وأذن السُّلطان سليم لمن يشاء من رعاياه المسلمين في السَّفر إِلى الجزائر، والانخراط في صفوف المجاهدين، وقرَّر منح المتطوِّعين الَّذين يذهبون إِلى الجزائر الامتيازات المقرَّرة للفيالق الإِنكشاريَّة تشجيعاً لهم على الانضمام إِلى كتائب المجاهدين، ولقد هاجر سكان الأناضول إِلى الجزائر شوقاً إِلى عمليَّات الجهاد ضدَّ النَّصارى، ولقد ترتَّب على القرارات الَّتي أصدرها السُّلطان سليم الأوَّل عدَّة نتائج هامَّة كان من بينها:
1 ـ دخول الجزائر رسميَّاً تحت السِّيادة العثمانيَّة اعتباراً من عام 1519م، ودعي للسُّلطان سليم على المنابر في المساجد، وضربت العملة باسمه.
2 ـ إِنَّ إِرسال القوَّات العثمانيَّة جاء نتيجة استغاثة أهل بلدة الجزائر بالدَّولة العثمانيَّة، واستجابةً لرغبتهم، فلم يكن دخول القوَّات العثمانيَّة غزواً، أو فتحاً عسكريَّاً ضدَّ رغبة أهل البلد.
3 ـ إِنَّ إقليم الجزائر كان أوَّل إقليم من أقاليم شمال أفريقية يدخل تحت السِّيادة العثمانيَّة، وأصبحت الجزائر ركيزةً لحركة جهاد الدَّولة العثمانيَّة في البحر المتوسِّط، وكانت حريصةً على امتداد نفوذها بعد ذلك إِلى كلِّ أقاليم الشَّمال الأفريقي لتوحيده تحت راية الإِسلام، والعمل على تخليص مسلمي الأندلس من الأعمال الوحشيَّة الَّتي كان يقوم بها الإِسبان النَّصارى.
لقد كان زمن السُّلطان سليم البداية المتواضعة لمدِّ النُّفوذ العثمانيِّ إِلى أقاليم شمال أفريقية من أجل حماية الإِسلام والمسلمين، وواصل ابنه سليمان ذلك المشروع الجهادي.
لقد استجاب السُّلطان العثمانيُّ سليم لنداء الجهاد من أخوة الدِّين، وشرعت الدَّولة العثمانيَّة في إِنشاء أسطولٍ ثابتٍ لهم في شواطئ شمال أفريقية، والَّذي ارتبط منذ البداية باسم الأخوين: عروج، وخير الدِّين بربروسة. (المشرق العربيّ، والمغرب العربيّ، د. عبد العزيز قائد، ص 97)
المصادر والمراجع:
- د. عبد العزيز الشِّنَّاوي، الدَّولة العثمانيَّة، دولةٌ إِسلاميَّةٌ مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصريَّة، مطابع جامعة القاهرة، عام 1980م، (2/910).
- د. عبد العزيز قائد المسعودي، المشرق العربي، والمغرب العربي، جامعة صنعاء، دار الكتب الثَّقافيَّة، صنعاء، الطَّبعة الأولى 1993م، ص (97).
- د. علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، ط1، 2003م، ص 167-171.
- د. نبيل عبد الحي رضوان، جهود العثمانيِّين لإِنقاذ الأندلس في مطلع العصر الحديث، مكتبة الطَّالب الجامعي، الطَّبعة الأولى 1408هـ/1988م، ص (311).