البحث

التفاصيل

الأبعاد الإنسانية لخطاب الرسول ﷺ فى حجة الوداع

الأبعاد الإنسانية لخطاب الرسول ﷺ فى حجة الوداع

الشيخ / محمد الغزالي

عندما أصلي على محمد - ﷺ - أشعر بأننى أزجى الثناء الحسن لمن يستحقه، وأنوه بالعبودية الصادقة لمن عاش حياته يرضى ربه ويجاهد فى سبيله! وأسأل ربى أن يتقبل صاحب هذه الحياة المباركة ويخلد آثاره، وأن يساعدنى على اقتفاء أثره والاقتداء بسنته ..

وعندما أسلم على محمد - ﷺ - وإخوانه المرسلين أقف على أطلال ماض طويل، وتاريخ سحيق كان رسل الله خلاله يكافحون الطواغيت ويخاصمون الجاهليات، وقد سال عرقهم ودمهم وتغضن جبينهم وتنكد عيشهم، ولكنهم صابروا وتحملوا.. وبعد لأى دارت الرحى على الكافرين فحصدتهم، ونجت العقائد والشرائع ومعالم الوحى الأعلى، وخلصت للأجيال المقبلة كى ينتفعوا بها، ويحصدوا ما غرس الأولون! وقيل بعد هذا العراك المرير : (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ) ، وقيل أيضا: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).

إننى عندما أصلي وأسلم على محمد، أصِلُ نفسى بأشرف ما فى الوجود، وأثبت خطوى على الصراط المستقيم، وأرتضى قيادة تحتضن الحق وتؤثر الرشد، وأعلن أن هواى مع ما جاء به. إن الصلاة والسلام هنا توكيد منهج وتحمل عبء، ومشاركة قلبية وفكرية لإنسان حررَ الإيمانَ من الخرافة، ونفى الحق من الشوائب، وربط الفطرة السليمة بالوحى، وصالح بين العقل والدين، وجعل الدنيا مهادا صالحا للأخرى..

إن محمدًا - ﷺ - ليس بشرا عاديا.. إذا كان الناس أجمعون قد خلقوا للعبادة، فإن محمدا كان النموذج الأكمل للعبودية المستكينة العانية المستسلمة لجلال الله، وإذا كانوا قد خلقوا ليظهر أيهم أحسن عملا، فإن محمدا حلَّقَ بسيرته فى مستوى ترنو إليه الفلاسفة والأبطال والقادة العظام ثم يتمنون لو أدركوا غباره، ونضح عليهم سنا منه..

نعم ليس محمد - ﷺ - بشرا عاديا، وقد درست حياة رؤساء وساسة ومفكرين ورجال سلام ورجال حروب، وأناسا واتتهم الحظوظ فبرزوا ، وآخرين كبت بهم الحظوظ ففشلوا.. وأُبت بعد هذه الدراسة وأنا أحمل فى نفسى تقديرا، خاصا لمحمد النبى الإنسان، النبى المربى، النبى الذى أصلح أخطاء القرون، ورد للعالم عقله الغائب، وكثير ما أودِعُ تقديرى ذاك فى الصيغة التى أمرنا بترديدها صيغة الصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله ﷺ.

***

استصحبت هذه العاطفة وأنا أطالع الصحائف الأخيرة من السيرة الناضرة وأتابع الكلمات التى قيلت فى حجة الوداع، إن الخطبة التى ألقيت فى هذه الحجة لا تستغرق بضع دقائق ولكنها أهم من خطاب يستغرق بضع ساعات، ولا عجب فصاحبها أوتى جوامع الكلم، واختصرت المعانى له اختصارا قوالب للحق، وأوعية للمعانى، وشفاء لما فى الصدور، وذاك حسبهم من الأداء...

وليس فى خطبة الوداع شرائع جديدة، إنها ترديد لأحكام سبقت، أو تطبيق لأصول تقدمت، أو تلخيص لما استفاض شرحه، والمراد تذكير الناس عامة بما قد يحاول الشيطان زحزحتهم عنه أو تنسيتهم إياه..

وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشعر بأنه قارب النهاية، وأن الأمة التى أنشأها قد تشبثت بظهر الأرض وفرضت نفسها على التاريخ، وانتقل الأذان مع الرياح الأربع، وتوزعت جماعات الصلاة على أطراف الزمان، فهى تلتقى على طاعة الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. ماذا بقى له؟ لا يريد لنفسه شيئا، صحيح أنه مرسل للعالمين، ليكن، فهؤلاء الذين رباهم سيمدون النور إلى ما بقى من أرض الله، إن الجيل الذى رباه جزء من الرسالة التى أداها...

من أجل ذلك كان يحدث وفى الوقت نفسه كان يودع، وفى تضاعيف حديثه كان يفرغ كل ما فى فؤاده من نصح وحب وإخلاص. والعرب قبل غيرهم من الناس أجدر أهل الأرض أن يعوا هذه الوصايا، فإن النبى الخاتم عانى معاناة طويلة وهو يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويبرئهم من علل يكاد يكون الشفاء منها مستحيلا، وعندما صنع منهم بالإسلام أمة جديدة أراد أن تكون هذه الأمة عنوانا عظيما على حقيقة عظيمة، أى أن دعايتها للإسلام ليست نشرات مكتوبة توزعها وزارة السياحة، أو خطبا تعتمد على إحصاءات مكذوبة، أو أنباء مختلقة.. لا، لا. إن جمال عملها بالإسلام، وصدق بلاغها عنه هو الذى يصنع لها القبول ويجمع حولها الأنصار.

إن النبى عليه الصلاة والسلام يعرف العرب معرفة جيدة، ويعرف أغوار الفرقة والخصام فى أفئدتهم، ويريد إشعارهم بالنعمة التى أفاءها الله عليهم، ولذلك يقول لهم فى هذه الحجة (حجة الوداع): " ويحكم أو ويلكم!! انظروا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "!!.

ما أغلى هذه الوصية، وما أبعد مداها فى التاريخ لقوم يعقلون.. على أن العلاج النبوى ليس لطيش الغرائز عند جنس بعينه، إنه لأجناس الخلق كلهم والأمر كما قلنا فى مكان آخر: إن الله ربى محمدا ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس أجمعين (وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس).

ومن ثم جاء فى آخر الخطاب النبوى " ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ".

وقد دخل فى دين الله بعد ذلك ألوف وألوف كانوا على اختلاف الألسنة والوجوه أوعى وأقدر، ولا يزال المد متصلا إلى قيام الساعة.

ونعرض الآن للمبادئ الرئيسية فى هذه الخطبة الجليلة وفق ترتيب اخترناه يناسب عصرنا:

( 1 ) - الإنسانية متساوية القيمة فى أى إهاب تبرز، لا يفرق بينها سواد أو بياض، لا تفاوت بينها نسب إفريقى أو أوربى، فالنزاعات العنصرية، والنعرات الوطنية ضرب من الدجل والإفك!.

ومن ذكر الواقع الردىء أن نصف الحضارة الحديثة بأنها حضارة القوميات والألوان، وأن شعوب أوربا وأمريكا تضمر فى نفسها احتقارا لأبناء القارات الأخرى، ومهما غطت هذا الشعور فهو يتنفس بقوة فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تفلح المواثيق النظرية فى كسر شره..

وقد نبه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ضلال هذا المسلك فى خطبة الوداع بقوله: " أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربى فضل على عجمى إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال "اللهم اشهد ".

( 2 ) - ولكسب المال قصة عميقة المجرى فى تاريخ البشر، وقد راقبت الأنظمة المتضادة وهى تحاول توفير الطمأنينة بين الناس، راقبت نظام التحكير ونظام التسعير، نظام إطلاق الملكية وتقييدها، نظام سيطرة الفرد وسيطرة الشعب، فوجدت أن النفس تدور حول أثرتها، ولا تبالى فى سبيل غايتها..

وما لم يكن هناك إيمان بالله فإن قوانين الأرض مسرح للعبث والتظالم، من أجل ذلك يقول الرسول فى هذه الخطبة " أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه " لكن هذه الإشارة المجملة لا تغنى عن إيضاح أوسع يحسم مادة التظالم بين الناس فى شئون الحياة كلها، فلنستمع إلى هذا التوجيه المثير.

( 3 ) - أيها الناس أتدرون فى أى شهر أنتم، وفى أى يوم أنتم، وفى أى بلد أنتم، قالوا: فى يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم.. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد!.

لكن بعض الجبارين، حكاما كانوا أم محكومين، تحملهم قوتهم على اجتياح الضعفاء، ونكبتهم فى حقوقهم المادية والأدبية، وقد اشتعلت ثورات هائلة للثأر من الظلمة، ووقعت حمامات دم، لم يكن القصاص فيها من الظلمة بقدر ما كان من ذراريهم وحواشيهم، ثم اتسع الخرق فهلكت ألوف مؤلفة من الأبرياء، وقامت حكومات جديدة ونشأت أنظمة أخرى، وتكررت المأساة نفسها حتى لكأن التاريخ سلسلة من المظالم مَن يفر فيها من الجناة أضعاف من تحيط بهم خطاياهم، وسوف يبقى الأمر كذلك حتى نعى قول الرسول فى هذه الخطبة " إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم "..

( 4 ) - كان الربا قديما رذيلة ساذجة، أساسها إمهال المعسر بثمن يسير أو فاحش، ثم أمسى فى المؤسسات العالمية رذيلة معقدة مدروسة تطيح فيها شعوب وجماعات، الدولة الفقيرة الآن تريد بناء مرفق هى فى حاجة إليه، فتقترض المال المطلوب من دولة غنية، ثم تأخذه على شرط شراء مواد البناء من الدولة المقرضة، وجعل الجهاز العامل من أبناء هذه الدولة! وبعد أن تحدد سعر الفائدة الربوية كما تشاء، تحدد أجور الموظفين من بينها، وأسعار المواد التى تقدمها، وتصرف القرض مائة ليعود إليها عدة مئات..

وجمهرة الدول الفقيرة الآن معرضة للإفلاس من جراء هذه السياسة الجشعة، وهى تترنح تحت وطأة الوفاء بما يبهظ كاهلها أو يقصم ظهرها..

ووددت لو تبنت الدول كلها مبدأ تحريم الربا، وتقرير مصاريف إدارية معقولة للصناديق أو المصارف التى تشتغل بالإقراض هكذا علَّم النبى البشرية من خمسة عشر قرنا عندما قال "... ألا وإن كل ربا فى الجاهلية موضوع، وإن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلَمون، قضى الله ألا ربا، وإن أول ربا أبدأ به - أسقطه - ربا عمى العباس بن عبد المطلب " - وكان من كبار التجار المتعاملين بالربا.

وقد رأيت أن تحريم الربا لا يستريح له إلا من خشى ربه، وقد قال بشناعة الربا كارل ماركس فهل نفذ التحريم من حكم باسمه من الشيوعيين؟ كان الروس يبيعون السلاح للدول التابعة لهم بأغلى الأسعار، ثم يتقاضون الثمن المؤجل مضافا إليه ربا فاحش!.

إن الحضارة المادية التى تقود العالم لا تعرف إلا اليوم الحاضر والربح العاجل، أما قوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) فحديث خرافة عندهم!.

( 5 ) - وصيانة الدماء قضية خطيرة وعندما كتب الله القصاص فى القتل والجراحات، كان يريد زجر المجرمين عن العدوان، وعندما يعلم امرؤ أنه لاق حتما المصير الذى يوقعه بغيره سيتردد طويلا فى قتل هذا أو جرح ذاك... وإذا غلبه الطيش فاعتدى فإن منظره مقتولا أو معاقبا سيوقع الرهبة فى قلوب الآخرين، وقد قيل: القتل أنفى للقتل، وقال الله تعالى ( في القصاص حياة).

وأغلب الدول العظمى الآن ألغت القصاص واكتفت بعقوبات تافهة لم تجد فى حماية المجتمع، وأصابتنا حُمّى التقليد، فشاعت بيننا الجرائم، وانشغل المظلومون بطلب الثأر لمن ينتمى إليهم أو ينتمون له.

وقد حسم الإسلام هذه الفوضى، بشرائعه العادلة، ويجب علينا إسدال ستارة سميكة على الانحرافات التى سادت العالم لتبدأ بعدها صفحة جديدة من تطبيق الأحكام السماوية.

ولا كرامة لباطل كما قال رسول الله فى هذه الخطبة الجامعة " ألا وإن كل دم ومال ومأثرة كانت فى الجاهلية، تحت قدمى هذه، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب " - قتله الهذليون فى الجاهلية وكان بين ظهرانيهم - وأراد النبى الكريم أن يفتح العرب بالإسلام صفحة جديدة تجب الماضى، ويبدأ بها عهد جديد.

( 6 ) - وتحدث النبى - صلى الله عليه وسلم - عن حقوق النساء، وهو حديث يحتاج إليه المسلمون المعاصرون، كما يحتاج إليه بقية الناس فى المشارق والمغارب، ذلك أن مواريث المسلمين الثقافية مثقلة بتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، كما أن الأوربيين أسفت بهم شهواتهم إلى مدى ردىء.

كان العرب لا يرون المرأة شيئا ولا يقيمون لها وزنا، بل لعلهم حسبوها شرا لابد منه! وقد لجأ بعضهم إلى قتلها وهى طفلة حسما للمتاعب والمخازى!!.

ولما جاء الإسلام محا هذا المنطق محوا، وبين أن النساء شقائق الرجال، وأنهم سواء فى تكاليف العقائد والعبادات والأخلاق، وأنهم سواء فى استحقاق الثواب والعقاب بما يعانون من جهد فى سبيل الله، وأن الزعم بأن الذكورة تقدم صاحبها وأن الأنوثة تؤخر صاحبها لون من الكذب.

وبذلك رفض الإسلام ما كان شائعا بين العرب من ازدراء الأنوثة، وأقام مجتمعه الجديد على قواعد أخرى، وإن كانت الطبيعة العربية فيما بعد تمردت على هذه القواعد، وكما نزعت إلى التشرذم والعصبيات والمنافرات وسفك الدم نزعت إلى حصر وظيفة المرأة فى شهوتى البطن والفرج، وضنت عليها بالوجود فى ميدان العلم والثقافة والعبادة والإصلاح ودعوة الخير التى هى الصفة الأولى للأمة الإسلامية (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير).

ولا ريب أن وظيفة المرأة فى بناء الأسرة خطيرة لا يقبل التفريط فيها، كما أنه لا ريب فى أن المجتمع كله مطالب بصيانة الأعراض، ومنع أى عبث بها.

والأمة الراشدة تستطيع التوفيق بين هذه الأهداف جميعا، فلا تضع المرأة فى قفص الاتهام بغباوة، ولا تطلقها لتكون مصيدة للآثام، ولا تجور على غيرة الرجل، ولا تهمل حقوق الله.

وقد يخطئ الرجل فيؤاخذه المجتمع، ولا يدع تأديبه، وقد تخطئ المرأة فلا يتركها الدين وإنما يدع أمر تأديبها إلى زوجها، لا ليكون جبارا، بل ليمنع العوج والنشوز، ويعيد الاستقرار فى جوانب البيت..

وفى ذلك قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى خطبة الوداع " أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا، وإن لكم عليهن حقا، فعليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه، إلا بإذنكم! فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع، وأن تضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف! وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيرا !. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: " اللهم اشهد ".

وعقد الزواج ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتقاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأرقى، ولم يقل الشارع: إن المرأة إذا ارتكبت خطأ ارتكب الرجل ضدها خطيئة، والمحزن أن تقاليد المسلمين بعيدة عن دينهم، وليست قط صورة تشرف الإسلام.

ولا نعتذر بذلك لدنايا الغرب أو نهون منها! وإنما نريد إنصاف الشريعة ومحو الغبار الذى أخفى معالمها، وشرع الله أفضل من أهواء الناس فى الشرق أو الغرب.

( 7 ) - وفى حجة الوداع أكد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرمة الأشهر الحرام، وهذا أمر يحتاج إلى بعض البيان، إن الأمم تحتاج إلى أمكنة وأزمنة يتوفر فيها السلام والهدوء، وتقلم فيها أظافر الوحوش الرابضة فى دماء البشر، أمكنة وأزمنة يأمن فيها الإنسان على حقوقه المادية والأدبية، ويثق بأنه لن يجد أذى أو كيدا من عدو أو صديق.

وقد ألهم الله إبراهيم ومحمدا عليهما السلام فجعلا مكة والمدينة حرمين آمنين، كما أنه سبحانه جعل من السنة أربعة شهور تجمد فيها الخصومات حتما وتتوقف الحروب.. وفى عصرنا حاولت بعض الدول أن تجعل نفسها محايدة بين شتى الجبهات، كما أن هناك محاولات لجعل مناطق من الأرض مجردة من السلاح الذرى، والمحاولات لكفكفة شرور الناس متصلة!.

بيد أن الأشرار لا يكفون عن بسط أيديهم بالشر ما استطاعوا، وفى الجاهلية العربية حاول نفر من الجبابرة إبطال حرمة الشهر الحرام، لأنه كان راغبا أن يقاتل فى هذا الشهر فأفتى نفسه بأن يحله، ويحرم شهرا آخر مكانه، ويمكن الإرجاء والتبديل تبعا للهوى. ولا ريب أن ذلك أضاع مكانة الأشهر الحرم، ومكن الأقوياء من العدوان، كلما تيسر لهم.

ونحن المسلمين نود لو يملأ السلام أرجاء الأرض، ويستغرق أعمار البشر، وأنى لنا ذلك؟ فى كل صلاة نهتف من أعماقنا " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " وفى كل صلاة نتلفت يمينا ويسارا لنوزع السلام حوالينا!.

ومع ذلك لم نفلت من شباك الفتانين والجبارين فخضنا الحروب كارهين مكرهين! ولا نزال كذلك حتى يوم الناس هذا، فماذا نصنع؟.

إن نبينا صلوات الله عليه ناشد الناس أن يستعيدوا حرمة الأشهر الأربعة فلا يظلموا أنفسهم فيها، وعسى أن يكون ذلك ذريعة إلى منع القتال طوال السنة! ونحن نستأنف هذه المناشدة! بيد أننا نرفض أن تستغل ضدنا، فسوف نقاتل بقينا إذا اعتدى علينا فى أى شهر أو إذا استجم العدو خلالها وأعد عدته للهجوم متربصا بنا السوء!.

إننا نعرض على العرب وغير العرب احترام الشهور لتتنفس فيها الإنسانية بهدوء. قال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}. والنسيء كما أشرنا آنفا ـ إرجاء حرمة الشهر إلى شهر آخر حسب الهوى، وقد ظلوا يفعلون ذلك حتى رجع الشهر المستباح إلى وضعه الطبيعى فقال النبى الكريم : " ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم، ولا ترجعوا بعدى كفار، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم قال: اللهم اشهد.

( 8 ) - بديه أن يكون النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريصا على مستقبل أمته، كارها أن يصيبها ما أصاب الأمم الأولى من زيغ وغضب! والحق يخاف عليه من ناحيتين كلتاهما شر من صاحبتها!.

الأولى: غارة همجية تدك قواعده وتمحو معالمه، وهذه تجىء من الخارج والأعداء كثيرون.

والأخرى: فوضى علمية وعملية تجعل العدو يغلب القصد، والعوج يغلب الاستقامة، فإذا وجه الحقيقة دميم، وباطنها سقيم.. وهذه تجىء من الداخل، وخلل الأديان القديمة أتى منها، والمغالون والمنحرفون قد يكونون شرا من العاصين والفاجرين.

وقد هوجم الإسلام من الداخل والخارج على سواء، وحاولت الشياطين أن تطفئ نوره، ولكن الله كتب له الحفظ وضمن لأصوله الخلود..

ونحن فى هذا العصر نشكو جراءة العدو وطول يده فى نهبنا، وغلظ طبعه فى إهانتنا، وعند التأمل العميق نرى المسلمين قد لحقتهم مغارم فادحة، وسقط لهم قتلى وجرحى كثيرون، أما المفقودون الذين تاهوا هنا وهناك ففوق الحصر!!.

ومع شناعة الغزو الخارجى، فإن فوضانا الداخلية كانت أنكى، وسمعة الإسلام العالمية تحرج الصدور، حتى كتب بعض أعداء الإسلام عن التفرقة العنصرية فى الإسلام (!) كيف شرعها وقررها، وحتى عُرف أن الإسلام يرجح جانب الفرد المستبد على رأى الأمة (!) وأن الإسلام صديق الفقر والتخلف، وأنه عدو المرأة، وأن المال فى مجتمعه دولة بين الأغنياء (!) ومناكر كثيرة حاربها الإسلام منذ ظهر اعتبرت من تعاليمه.

والفوضى الداخلية عندنا هى المسئولة عن هذا البلاء، وأعتقد أنها سبب الاستعمار الذى أذل جانبنا.

ومع سوء الفقه وسوء الحكم خارت قوى المسلمين وذهبت ريحهم؟! ثم تطلعت الأخلاف بعيدا فرأت بريق التقدم يتخلل أقطارا أخرى لها فلسفات متبرجة ودعاوى ضخمة .

فظن المظلومون أن العدالة هنالك، وظن الفقراء والمحرومون أنهم واجدو النعمة والكرامة فى مذاهب القوم ومسالكهم..

بل ظن أصحاب البلاهة والجهل أن الإسلام كان السبب فيما عرا البلاد من تقهقر، وخير لهم أن يستبدلوا به المبادئ التى خلبتهم..

وراجت سوق العلمانية والشيوعية والديمقراطية، وهى مذاهب سدت نقصا ملحوظا عندما ظهرت، لأنها ظهرت فى بيئات كان الخصام فيها شديدا بين العلم والدين والعدل الاجتماعى والنظام الطبقى، وبين حقوق الشعوب والحق الإلهى للملوك!.

إلا أنها مذاهب قرنت بكل خير قدمته شرا يساويه أو يربو عليه، فإذا العالم مملوء بالإلحاد والفساد والأثرة، وانضم إلى ذلك شىء آخر مثير للعجب، إن الأديان الأرضية والسماوية جميعا لبست هذه المذاهب الجديدة على ضغائنها وخرافاتها القديمة، واشتبكت مع الإسلام تريد محوه والعيش على أنقاضه، فعلت ذلك الوثنية واليهودية والنصرانية دون حياء، والحرب الآن على قدم وساق فى الشرق الأقصى والأوسط وفى إفريقية وجنوب أوربا..

وبابا الفاتيكان وغيره يقومون برحلات وسياحات متتابعة للإجهاز على الدين الجريح..

بل إن الشيوعية ـ والمفروض أنها ذات صبغة عالمية ـ كشفت عن أنها حركة تخدم القومية الروسية أو الصينية، وتؤسس استعمارا من لون جديد وتعرض للفناء ثمانين مليونا من المسلمين، وتعمل على محو شخصيتهم، وإفناء عقيدتهم...

إننى أحذر أمتى الكبرى من فناء ذريع يجتاحها مع هذا الاسترسال فى الغفلة والجهل بما يحاك ضدها من مؤامرات، وعجزها الشائن عن رد عدو يوشك أن يأتى عليها من القواعد.

ولتعلم أمتنا، أن الحل الأول هو الحل الأخير، وأن التعاليم التى صنعتها قديما هى التى تصوننا الآن، وأن التفريط فى الإسلام محو لكينونتنا قال عليه الصلاة والسلام " أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا،، أمرا بينا : كتاب الله وسنة نبيه، وإنكم ستسألون عنى! فما انتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت! فجعل يشير بإصبعه السبابة إلى السماء، ثم إلى الناس وهو يقول: اللهم اشهد اللهم اشهد ".

هذه هى المعانى التى شاء الرسول أن يؤكدها فى حجته الأخيرة بالناس وهو يقول: أيها الناس، اسمعوا منى أبين لكم، فإنى لا أدرى: لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا..!.

والوصايا التى أودعها النبىء ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمائر الناس لا تتضمن قضايا فلسفية ولا نظرات خيالية، إنها مبادئ سيقت فى كلمات سهلة سائغة، لكنها استوعبت جملة الحقائق التى يحتاج إليها العالم ليرشد ويسعد.

وهى على وجازتها أهدى وأجدى من مواثيق عالمية طنانة.

ذلك أن قائلها كان عامر الفؤاد بحب الناس والعطف عليهم، شديد الحرص على ربطهم بالله وإعدادهم للقائه، عميق الشعور بعبء البلاغ الذى أخذه على عاتقه، موقنا بأن الحياة الصحيحة يستحيل أن تتم بعيدا عن الله ووحيه..

وقد نأى المسلمون ـ فى هذا العصر ـ عن مواريث نبيهم، وإذا كان الشيطان على عهد النبوة قد يئس أن يعبد فى جزيرة العرب.. وإذا كان الإسلام على عهد النبوة قد دفن النعرات الجاهلية والعصبيات الدموية، فإن هذا العصر جدد آمال الشيطان، بل نفخ فيها روح القوة... والعالم الإسلامى اليوم تتوزعه نحو مائة قومية، وتمشى جماهيره تحت مائة راية...

وبعض هذه القوميات يقبل الإسلام ضيفا عليه ـ ضيفا فحسب ـ وبعضها الآخر تبلغ به القحة أن يعد نفسه بديلا عن الدين...

وقد تفرسنا فى هذه القوميات البديلة عن الدين كما يزعم أصحابها، فإذا الدين المزهود فيه هو الإسلام وحده! وإذا القوميات المنتحلة مصيدة استعمارية لطعن الإسلام وحده، والسماح بالمرور لكل دين آخر...

والقوميات الكبيرة تتجول فى محيط السياسة العالمية كأنها حيتان فاغرة فاها، تبتلع ما تريد، وقد استطاعت أن تصنع فى إفريقية أكثر من خمسين قومية صغيرة، أقيمت وفق مواصفات خاصة، وأشرف على تخطيط حدودها رجال الكنائس المسيحية، وذلك لتنفيذ خطة الفاتيكان فى القضاء على الإسلام وجعل النصرانية الدين الأول فى هذه القارة..

والخطة المرسومة تنفذ بأناة ودهاء، ويتعهدها البابا نفسه بزياراته وبركاته (!)...

وما صنع فى إفريقية صنع مثله من قبل فى آسيا، فروسيا أنشأت الاتحاد السوفيتى من أربع عشرة قومية، خمس منها إسلامية، قيل لها كى تقف مقاومتها الحربية: إنها لن تضار من الانضمام إلى هذا الاتحاد من الناحية الدينية..

قال الأستاذ أحمد سليمان المحامى فى مجلة الفكر الإسلامى السودانية: أصدر لينين منشورا مليئا بالوعود الحسنة للمسلمين، وقعه معه ستالين فى 15/12/1917 م ـ إذ كان مسئولا عن شئون القوميات ـ جاء فيه : إن أديانكم وعاداتكم ومعاهدكم العلمية والقومية مصونة من كل اعتداء! نظموا حياتكم القومية تنظيما يستند إلى أسس الحرية والاستقلال، وهذا من حقكم الشرعى (!) واعلموا أننا نحن البلاشفة ندافع عنكم وعن حقوق كل الشعوب التى تعيش فى أنحاء روسيا.. إننا برفع علمنا هذا، إنما نعلن للشعوب المستعبدة فى روسيا شعار الحرية والاستقلال.. أيها المسلمون، نحن ننتظر منكم معاونتكم المادية والأدبية ".

ولكن سرعان ما نكص ستالين عن وعده عندما استتب له الأمر.. وهو بهذا النكوص يكرر ما فعلته من قبل القيصرة كاترين الثانية التى وعدت المسلمين بحمايتهم إذا استكانوا للحكم الروسى، فلما ملكت أمرهم أصدرت فى 8/ 4/ 783 1م منشورا تعلن فيه دون حياء، بل تعلن فيه وقد أخذتها العزة بالإثم حنثها بوعدها قائلة: " لذلك أرانى فى حل من تعهداتى السابقة بالتخلى عن القرم، وترك شعوبها حرة مستقلة، وأجد من حقى أن أعود فيما أعطيت وأن أضع يدى على هذا الإقليم.. ".

الواقع أن المسلمين ضياع فى روسيا على عهد القياصرة البيض والحمر جميعا، وأنهم يعاملون باستهانة وجفاء، وقد شرحنا ذلك فى كتابنا " الإسلام فى وجه الزحف الأحمر ". إنه ـ كما ينقل موظف من بلد إلى بلد ـ تنقل شعوب بأسرها من قطر إلى قطر! وتبتر بترا علاقاتها بماضيها ومجتمعها وأواصرها الروحية والتاريخية، يكفى أن يضمن لها الأكل، كما يضمن للدواب العلف ثم تظل تكدح إلى أن تهلك!! كذلك فُعل بالمسلمين.

ويقول الأستاذ أحمد سليمان: إن الأساليب التى اتخذتها كاترين هى، هى التى اتخذها ستالين، الحكام أغلبهم من القومية السلافية، والنفى مصير كل من يرتاب فى ولائه، والإعدام يقضى به حتما على كل من يرفع صوته متبرما من ظلم وقع عليه أو على غيره..

وكما فرضت كاترين توطين بعض الطوائف الكارهة للإسلام فى أرض الإسلام فعل ستالين، فقد نفى عشرات الألوف من المسلمين إلى سيبيريا واستبدل بهم مهاجرين من قوميات أخرى، وفى أحد الأفواج التى نقلت إلى الأرض الإسلامية بلغ عدد اليهود القادمين خمسة وثلاثين ألفا، وكان بعض البلاشفة من السلالات اليهودية يقولون لأبناء جلدتهم: لقد انتقمنا لكم من المسلمين الذين طرد أسلافهم جدودكم عندما كانوا فى جزيرة العرب!! وها أنتم أولاء تعيشون وسطهم فى أرض الاتحاد السوفيتى العظيم... ".

المأساة الكئيبة أن المسلمين يجهلون تاريخهم، وأن العرب خاصة يجهلون أو يجحدون ما صنع الإسلام لهم وكيف رفع خسيستهم !

إننى أذكرهم بوصايا النبى وهو يودعهم، ويدعهم يواجهون الحياة وحدهم! إنه يقول لهم: لستم وحدكم، معكم كتابى وسنتى! ميراث لا يعدله ميراث احذروا التهاون به، فمن فعل ذلك (فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).

سلام على صاحب الرسالة الخاتمة، مادامت الأرض والسماء، وما قامت بربها الأشياء.

----------

من كتابه:  الطريق من هنا





التالي
برنامج "الحرية في ذاكرة المولد النبوي الشريف"الحلقة الأولى: "استدعاء قيمة الحرية في الذاكرة المولدية" فيديو
السابق
السعودية: منذ عام ونصف.. المصلون يؤدون أول صلاة بلا تباعد في الحرمين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع