كلمة الأمين العام في المؤتمر الدولي : المسلمون الروس الحقوق والواجبات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبتوفيقه تتحقق الخيرات، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للكائنات، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الجزاءات.
أصحاب السعادة والسماحة، إخواني وأخواتي الكرام
أحييكم بتحية الإسلام فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لايسعني في هذ المقام إلا ان أتقدم بالشكر الجزيل والدعاء الخالص والثناء العامر لكل من ساهم في عقد هذا المؤتمر وإنجاحه، والشكر موصول للإخوة الحاضرين من أصحاب السماحة المفتين وأهل العلم الذين سعدنا بلقائهم، سائلا الله تعالى أن يكتب لنا ولكم جميعا أجر الذين يتدارسون أحوال أمتهم في ضوء القرآن والسنة، بأن ينزّل الله علينا جميعا سكينته ورحمته، وتحفّنا الملائكة، ويذكرنا الله في ملأ خير من هذا الملأ، وأن يشرح صدورنا لما فيه خير للإسلام والمسلمين، وخير هذه البلاد { ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا} [].
أيها الإخوة الكرام
نحن مع وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين جئناكم حبًّا فيكم وأملاً في المساهمة معكم في توحيد كلمة المسلمين من خلال دراستي المتواضعة حول وضع امتنا، والتي لم تصل إلى هذا المستوى من التفرق والتمزق مثل عصرنا الحاضر، حيث بلغ الخلاف إلى مرحلة خطيرة، فاليوم الخلاف والشقاق والقتال بين السنة والشيعة، ثم داخل السنة نجد الجماعات المختلفة تتقاتل بينها، فلننظر إلى الجماعات التي تسمي نفسها الجهادية كيف تقاتل جبهة النصرة (داعش)، وكلتاهما من القاعدة. إن حال أمتنا من حيث الضعف، والتخلف والفقر والبطالة والمرض أيضا حالة سيئة لاتخفى على أحد، على الرغم من الإمكانيات العظيمة المتوافرة من جميع الجوانب.
وأمام هذه التحديات لابد أن نقوم بمراجعة النفس والآراء والأفكار والتصرفات ونحدد أين الخلل؟
فلا يخفى عليكم أيها الإخوة أنه لا يوجد دين أولى العناية القصوى للوحدة وحرمة الافتراق مثل الإسلام الذي يمكن أن نلخصه بكلمتين هما: توحيد الله تعالى وتوحيد العابدين على الصراط المستقيم، وقد سمى الله تعالى الفرقة كفرا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، وقد فسره المفسرون ذلك بكونه متفرقين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) ( رواه البخاري)، بل ان الله تعالى سجّل حكمة هارون حينما صبر على شرك قومه حتى لا يتفرقوا فقال: {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه:94].
وفي مجال التنمية جعلها الله تعالى فريضة فقال سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، قال المفسرون إن الآية تدلّ على أن تعمير الأرض فريضة وواجب.
فالخلل والسبب ليس في هذا الدين العظيم، فقد أنزله الله تعالى وأرسل نبيه ليكون رحمة للعالمين، وليس ليكون سببا للشقاء بين الناس، فقال تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2،1]، بل هو خير كله، ومصلحة كله، رحمة كله، عدل كله، قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} [النحل:30].
فالخلل الحقيقي في أنفسنا نحن، فقد تركنا منهج السلام والرحمة والتسامح والمحبة للآخرين، والتعايش بلطف ورفق، وانتشر بيننا الظلم والكره والشدة، وأصبح الدين والخير محاربا من أبناء جلدتنا، وبالمقابل ظهر التطرف والتشدد، والتكفير والتفسيق، والإرهاب والتخويف، والهرج والمرج، وظهرت رؤوس جهال فضلّوا وأضلّوا، فانتشرت فتاوى التكفير بنوعيها: أنواع تكفير النفس وتكفير الأمة.
أيها الفضلاء:
أمام هذه التجارب الفاشلة خلال القرون الأخيرة تصبح المراجعة فريضة شرعية، وضرورة حضارية. ضرورة المراجعة الدائمة للأفكار والتصرفات :
إن الإنسان - ماعدا الأنبياء - ليس معصوما، فوهو قابل للخطأ والخطيئة (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ولذلك يؤكد القرآن الكريم على هذا المبدأ، ويذكر له تطبيقاته بدءًا من سيدنا آدم عليه السلام الذي أخطأ في أكله من الشجرة، فقال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:124] مع أنه كان في أقرب منزلة من الله تعالى. كما بيّن القرآن الكريم مثل ذلك لمن كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم خير القرون، فقال تعالى في حقهم عندما خالف بعضهم أمر الرسول في أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وفي حنين قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25].
ولذلك يجب على الجماعات والأفراد أن تبقى مستمرة على المراجعة الدائمة للتصحيح وللتطوير، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه في رسالته إلى قاضيه أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل).
إن مراجعة النفس والآراء والتصرفات تعدّ قمّة الشجاعة والتواضع والتقوى، لأنه لا يمكن أن يَقدِم عليها إلا الشجعان الذين يخافون الله تعالى ويريدون لأنفسهسم وجماعتهم وأمتهم الخير، لأن العمل مهما بذل فيه من جهود لا يخلو من نقص أو خطأ أو خطيئة. كما أن تصحيح المسار وكفّ النفس عن العجب والغرور بالاعتراف بأخطائها لن يتحقق إلا بالمراجعات الدائمة التي تؤدي إلى إثراء الحوار، وتنشيط روح الاجتهاد، والتخلي عن الجمود على القديم وادعاء العصمة)، وقد قامت الجماعة الإسلامية بمصر التي قتلت الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بمراجعات شاملة أدت إلى تخلّيها عن أفكارها المتشددة وكتبت في سبيل ذلك عدة مجلدات[1].
تعالوا إلى كلمة سواء:
استعمل القرآن الكريم هذا النداء لمخاطبة أهل الكتاب، ولكن اليوم تنادي به جميع الفرق المتفرقة من المسلمين أيضا، ولذلك أدعو جميع المخلصين لهذه الأمة ولدينها، بل أدعو المخلصين لوطنهم، للتعايش السلمي والحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته من غير المسلمين، وأدعوهم إلى كلمة سواء. كلمة سواء بيننا نحن المسلمين بعضنا مع البعض للحوار ونبذ العنف من الحكومات ومن الجماعات، أدعو الجميع للتحاور حول مبادئ الإسلام في الوحدة، والتعايش والأخوة، والحقوق المتقابلة، والولاء لله ولرسوله ولجميع المؤمنين، والحب بين المؤمنين بحيث يحب كل واحد لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، وأن نستفيد من التاريخ، لنرى ما الذي حققه العنف للمسلمين المتشددين؟ ما الذي أفاد به الخوارج الأمة بعنفهم وتكفيرهم وإرهابهم؟ وبالمقابل فلننظر إلى المسلمين الذين صبروا، فهم من قاموا بالتربية والحفاظ على هذا الدين، فالظلم زائل والاستبداد مندحر، والدكتاتورية ستنهار آجلا أو عاجلا، وأن الإيمان هو المنتصر بإذن الله تعالى، ولكن الحذر كل الحذر أن يقتل المسلم أخاه المسلم، فتلك هي الطامة الكبرى، والرسول الكريم يقول: (لايزال المؤمن في فسحة في دينه ما لم يريق دم امرئ مسلم)، ويقول تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
وللأسف اليوم بلغ ببعض المسلمين إلى أن يفجِّروا أنفسهم وسط المدنيين والأبرياء والأطفال والنساء، مع أن مثل هؤلاء لا يُقتلون حتى في الحرب المشتركة، فقد كانت وصايا الرسول الكريم والخلفاء الراشدين هو عدم قتل النساء والأطفال والرهبان ونحوهم، وبعدم قطع الأشجار، لأن من أخلاق المسلم الحفاظ على الأنفس البريئة والحفاظ على البيئة حتى في الحرب، في حين أن الطغاة هم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، وإن كلمة السواء بيننا وبين غير المسلمين هي الدعوة إلى النقاش والتحاور والتعاون البناء لحماية الأرض وتعميرها على أساس العدل والرحمة، وهذا ما تبيِّنه سورة الرحمن حيث قال تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ* وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن:7-10]، حيث شدّد سبحانه وتعالى على ضرورة وضع الميزان بالعدل والقسط، وذلك لأن الله تعالى خلق الأرض والكون للجميع، بل خلقها للأنام أي لجميع المخلوقات، وبالتالي لا يجوز لفئة معينة أو أمة محددة أن تستأثر بخيرات الأرض كلها؛ بل هي لجميع البشر وبقية المخلوقات.
واذا تدبّرنا الآن القرآن الكريم وقمنا بالاستقراء الشامل حول هذا الموضوع لتوصلنا بيقين إلى أن الله تعالى يريد من أمة الإسلام أن تسعى جاهدة لتوسيع دائرة الحوار والتعايش السلمي لتصل إلى الجميع. فلينظر كيف يؤصّل للمشتركات الإنسانية ويؤكد عليها ويكررها وهي:
1- الاشتراك في الأصول الأولى والأساسية وهي أن الجميع يرجع إلى آدم وحواء، ثم إلى الأرض، ويؤكد ذلك عشرات الآيات البيّنات لإثبات الأخوة الإنسانية والقرابة حتى صرّح القرآن بذلك فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
2- الاشتراك في نفخة الله من روحه التي بها أصبح الإنسان إنسانا عاقلاً مكرّماً سجدت له الملائكة فقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]، فجميع البشر متساوون في هذه النفخة، ولذلك فهم مكرمون من الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]، فهذه الروح من عند الله فلا يجوز إزهاقها إلا بأذنه الخاص من خلال الدليل القطعي الواضح، ولذلك شدّد النبي صلى الله عليه وسلم في قتل كل من لم يكن محاربا بأنه لا يجد ريح الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: "مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" رواه البخاري.
3- الاشتراك في هذا الكون وتسخيره، ولذلك قام الرسول صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي فقال له صحابته إنها جنازة يهودي فقال: "أليست نفسا" رواه البخاري، والعيش المشترك في الأرض قال تعالى مخاطباً الإنسان: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية:13]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن:10].
4- الاشتراك في المشاعر والقلوب والنفوس والأحاسيس الإنسانية والعواطف.
ثم بعد هذه المشتركات الحقيقية الطبيعية التي تجمع وتقرّب وتجعلنا أمة إنسانية واحدة، يرتقي القرآن الكريم فيوجّه خطاباً راقياً لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيطالبهم بالارتقاء إلى سمو التعامل والتسامي على الأمور الحقيرة وحظوظ النفس فيقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء} [آل عمران:64] وكلمة "تعالوا" ليست بمنى (أتوا) وإنما هي من السمو والارتقاء، لأن تجاوز الخلافات يحتاج إلى التسامي والسمو في الأخلاق.
ثم بعد هذا الخطاب العام يخصّ النصارى (لأنهم أقرب مودة من الذين آمنوا) حتى إن المسلمين قد حزنوا حزناً شديداً لأجل هزيمة الروم أمام المجوس، ودخل أبو بكر في رهاف.
ثم لا يكتفي الإسلام بالقرب والتقارب من أهل الكتاب وإنما يدعو الإنسانية للالتقاء والتحاور من خلال قضية مشتركة أخرى وهي "البحث عن الحقيقة" فقال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:24،25]، بهذا الأسلوب الراقي يطالب القرآن جميع البشرية للالتقاء، وأن لا يمنعهم كرههم لأحد، بل إن هذه الآية لا تقطع بمن معه الهداية، أو الضلال وإنما يدعو إلى الحوار لظهور الحق مع أي فريق يظهر، حتى قبل ذلك يصف الرسول نفسه بأنه حتى لو أجرمنا في نظركم فتعالوا ناقشونا ونحن مستعدون للمناقشة.
تلك هي قمة السمو والارتقاء في التصور القرآني نحو البشرية وفي مجال التنظير، أما في مجال التطبيق والتفعيل فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الليل بالهداية لأبي جهل، وأبو جهل يعذّب الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهار، وقريش يؤذونه أشدّ الإيذاء والتعذيب، ويأتي له المَلَك فيخبره بأن الله تعالى قادر على أن يهلكهم إذا طلبت ذلك، ولكن الرسول يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" رواه البيهقي، ويقول: "لعل الله يخلق في اصلاب هؤلاء القوم من يعبد الله" رواه البخاري، لأنه رسول الرحمة للعالمين، فماذا يقول الذين يقتلون المسلمين وغيرهم، ويفجّرون أنفسهم والسيارات لقتل العشرات بل المئات من الأبرياء من المسلمين وغيرهم؟!
وأما معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين المسالمين فقد كانت في القمة، فحينما استقر في المدينة كتب وثيقة المدينة التي خصّ سبعة وعشرون (27) بنداً منها لغير المسلمين من اليهود والوثنيين، فعاملهم على أساس المواطنة الكاملة بحقوقها وواجباتها، ولذلك تعدّ هذه الوثيقة أول دستور على مستوى العالم يعطي الحقوق لغير الدين الغالب.
أيها الإخوة المؤمنون:
في الحقيقة نحن المسلمين اليوم على مفترق الطرق، فإما أن نلتزم بهذه الأخلاقيات العظيمة للتعامل بين المسلمين بعضهم مع بعض وبينهم وبين غيرهم، وإما نبقى على نفاق وفراق وتخلّف، وقد قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137].
إنّ ما جاءت به بعض الأفكار الضيقة التي سمّيت بأسماء إسلامية من تكفير الأشاعرة، أو الصوفية، أو السلفية، أو غير ذلك، هي التي أدت إلى هذه الفرقة والنزاع والتكفير والتفجير، وهذا الاستقطاب الغريب الذي لم تشهده الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل.
فالمنهج الإسلامي الصحيح لا يقوم على التكفير والبحث عن الكافر، وإنما يدعو الإسلام إلى الهداية، ويقبل بالظاهر والله يتولى السرائر، فهذا قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين واحداً واحداً ويسمع قول الكفر الصريح البواح منهم، بل يسجّل القرآن الكريم كفرهم في آيات بل خصهم سورة بهم ومنها قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رجَعنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وكان المنافق معروفاً وهو عبد الله بن أبي سلول ومع ذلك غضّ عنه الطرف، لأنه في الظاهر يدّعي الإسلام بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه صلاة الجنازة، وحينما طالب بعض الصحابة بقتل بعض هؤلاء المنافقين الكافرين المرتدين امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: "حتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه" رواه البخاري.
وهذا يدلّ على أن المرتد لا يقتل لأنه مرتد وإنما يقتل سياسة شرعية إذا حارب الإسلام والمسلمين، أي من باب المحاربة والفساد في الأرض.
وكذلك سيدنا علي رضي الله عنه الذي سار على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الخوارج الذين كفّروه وجماعته، ومع ذلك لم يكن يكفّرهم لأنهم كفّروه، ولم يقاتلهم وأعطاهم الأمن والأمان بشرط عدم المحاربة والفساد في الأرض.
فالحكم بالكفر ليس من شأن الدعاة والجماعات الإسلامية فهم دعاة لا قضاة، وإنما من صلاحية القضاة الذين يبحثون عن جميع الظروف والملابسات، ومع ذلك فقضية الكفر من حق الله لا يجوز للنيانة أو الأفراد أن يحرّكوها إلا إذا أوجد مشاكل وتعدّ على حقوق العباد أو الإضرار بأمن المجتمع، أو الدولة الشرعية.
وممّا يجب التنبيه عليه في هذا المجال هو أن الجهاد قد أسيء فهمه واستعماله، وادعاؤه، وغايته ومقاصده وأهدافه. فالجهاد في حقيقته من الجهد الذي أشتق منه أيضاً الاجتهاد، وهو يشمل بذل الجهد الممكن لنشر الإسلام ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، وحماية المجتمع الإسلامي من الانحراف، ولذلك عّبر عنه القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، أي: نشر القرآن والصّدع بالحق، وهو ما يسمى: الإعلام الموجّه نحو الخير، كما أطلقه على ما يشمل بذل الروح والمال في سبيل الله في آيات كثيرة.
والجهاد بمعنى القتال له شروطه وضوابطه كما للصلاة أركانها وشروطها، وأنه وسيلة لتحقيق الخير للأمة، وكذلك إذا لم يحقق ذلك فلا بد من الأخذ بوسيلة أخرى.
وإن من أهم مقاصد الجهاد وغاياته وأهدافه هو رفع الظلم عن المظلومين وتحقيق الحرية لأهل الأديان جميعاً، وهذان المقصدان هما اللذان عبرت عنهما أول آية نزلت في القتال فقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [الحج:40]. فالآية واضحة الدلالة على ما يأتي:
- الجهاد بمعنى القتال يحتاج إلى إذن من الله، ثم من خلال الشروط التي وضعها الكتاب والسنة، واستنبطها المجتهدون.
- إن القتال شرع لردع الظلم عن المظلومين وردّ المخرجين من ديارهم إليها، وتحقيق الحرية الدينية للناس.
- الإسلام يريد أن يكون أهله أقوياء ليس لإيذاء الناس وإنما لدرء الظلم والإيذاء، وكذلك طالب أولي الأمر بتحقيق القوة الرادعة فقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
- إن المبرّر الذي ذكره القرآن هو درء الظلم ودفعه، وتحقيق الحرية لجميع أهل الأديان من اليهود والنصارى والمسلمين ومن يصلى أي صلاة يظنها أنها لله تعالى من أصحاب الأديان الأخرى، وأما المجتمع الإسلامي فإنه يحمي بالجهاد بمعنى تغيير المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[1] - النصح والتبين في تصحيح مفاهيم المحتسبين، تأليف مجموعة من قادة الجماعة الإسلامية - الجهادية – بمصر.