قدرة الخالق سبحانه وتعالى لا تحدها حدود
د. زغلول النجار
قال تعالى: *أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* (يس: 77-83).
في هذه الآيات عتاب من الله تعالى على الإنسان، ذلك المخلوق المكرم العاقل المكلف، فيقول له ربنا تبارك وتعالى: *أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ*. والنطفة هي القطرة الدقيقة من الماء، وخلق الإنسان بكامل جسده وأجهزته وعقله وقدراته الحسية و المعنوية من هذه النقطة كفيلة بالشهادة للخالق سبحانه وتعالى بطلاقة القدرة، وبدلاً من الاعتراف بذلك، كثر على وجه الأرض أهل الكفر والشرك والضلال الذين خالفوا أوامر الله واقترفوا من الخطايا ما لا يرضي رب العالمين، وعبرت الآية عن هذا الموقف الجاحد بتعبير (..فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).
وتضيف الآيات قول ربنا تبارك وتعالى: *وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*، وانطلاقاً من هذه الكبوة البشرية التي وقع فيها كثير من الناس وهي القياس على الله بمعايير البشر، استصعب الإنسان عملية البعث بعد تحلل الأجساد وتحولها إلى تراب الأرض، ولو تأمل الإنسان عملية خلقه ما أثار هذه القضية ابداً، وجاء جواب الله تعالى بقوله : *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ*، ولو تأمل الإنسان في مراحل خلقه الأولى ما استبعد عملية البعث بعد أن يَبلى الجسد ويتحول إلى تراب الأرض.
ثم استشهدت الآيات في ختام سورة يس بقضيتين أخريين على طلاقة القدرة المبدعة في الخلق، وأولى هاتين القضيتين هي القدرة التي أودعها ربنا تبارك وتعالى في الشجر الأخضر على التقاط جزء من طاقة الشمس وتوظيفه في تحليل الماء إلى مكوناته الأساسية: ذرتا الهيدروجين التي يحتفظ بهما، وذرة الأكسجين التي يطلقها إلى جو الأرض. كذلك أعطاه الله تعالى القدرة على امتصاص جزء من ثاني أكسيد الكربون الموجود في جو الأرض، وتحليله بالطاقة الشمسية إلى مكوناته الأساسية: ذرة الكربون التي يحتفظ بها لبناء كيانه النباتي، وذرتا الأكسجين اللتان يطلقهما إلى الغلاف الجوي للأرض لتنفس الكائنات الحية. أما القضية الثانية فهي قضية خلق السماوات والأرض وهي من أوضح القضايا على أن قدرة الخالق سبحانه وتعالى لا تحدها حدود، وبالتالي فإن الذي أبدع السماوات والأرض هو قادر على أن يبدأ الخلق ثم يعيده، لذلك ختمت سورة يس بقول ربنا تبارك وتعالى: *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*.
ومن أوضح آيات الإعجاز العلمي في سورة يس هي الآية رقم ٨٠ والتي تشير إلى حقيقة أن الشجر الأخضر هو أحد المصادر الطبيعية للطاقة على وجه الآرض، ومن صور هذه الطاقة حرق أخشاب هذا الشجر الأخضر بعد جفافها مباشرة، أو بتفحيمها بمعزل عن الهواء (الفحم النباتي)، كذلك ثبت أن للشجر الأخضر الدور الرئيس في تكوين كل من الفحم الحجري والغازات المصاحبة له، وتعتبر هذه المصادر من أهم مصادر الطاقة المعروفة في الأرض، وقد لخصتها هذه الآية الكريمة في لفظ "النار"، ولما كانت معرفة الإنسان بذلك لم تتبلور إلا في القرنين الماضيين، فإن سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى هذه الحقيقة مما يؤكد على أن القرآن الكريم لا يمكن آن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق.
والطاقة الموجودة في الشجر الأخضر أصلها من طاقة الشمس، ولذلك فإنه عند جفاف كل النباتات الخضراء فإن بقاياها تتحول إلى الحطب، أو القش، أو التبن، أو الخشب، أو الفحم النباتي، أو الفحم الحجري والغازات المصاحبة له.
ويصل معدل الإنتاج السنوي من المواد العضوية النباتية إلى أكثر من ١٧٠ بليون طن، وتقوم النباتات بتثبيت أكثر من ١٠٠ مليون طن من الكربون المستخلص من غاز ثاني أكسيد الكربون الجوي في المتوسط، وذلك في عملية يسميها العلماء باسم "عملية البناء الضوئي"، وينتج عن هذه العملية إطلاق كميات هائلة من غاز الأكسجين إلى جو الأرض ليجعله في متناول جميع الأحياء.
الاعجاز_العلمي سورة_يس