البحث

التفاصيل

إضاءات إيمانية: الحلقة الثانية عشْرة

الرابط المختصر :

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبيّ الهُدى والرحمة المهداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

سلسلة إضاءات إيمانية: الحلقة الثانية عشْرة - الحلقة الأخيرة

د. عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين    

5. النتائج والآثار والامتدادات التي تثمر ما يمكن الاصطلاح عليه بالسحنة المبتغاة لدى الأمة بأجمعها أفرادا وجماعات وهيئات ومنظمات ومؤسسات:

يشكل النموذج التربوي الذي يقدمه القرآن الكريم رؤية متكاملة للإنسان المسلم، إنسان الرسالة الخاتمة، والعالم الذي يعيش فيه والآفاق المستقبلية، سواء تلك التي ينتظرها العبد في حياته الدنيا الفانية ـ عالم الشهادة، أو تلك التي تحدث عنها كتاب الله تعالى واستعرض ملامحها وأحوالها العامة وهي ما يتعلق بأمور الآخرة ـ عالم الغيب. ولئن كان هذا النموذج التربوي الذي استعرضنا عناصره ومكوناته في الحلقات السابقة، فذّا في أسسه ومبادئه، وفي مضامينه ومحتوياته، وفي أساليبه ووسائله وطرق استعمالاته المتعددة والمتنوّعة، فإن له آثارا ونتائج، وامتدادات تُثْمِرُ لنا تلك الشخصية المسلمة المؤمنة التي صاغها الله تعالى في كتابه الكريم، وأخرجها للعالم بالتربية والتزكية والتضحيات الجسام بالمال والنفس والوقت والعلم، لتشكيل مجتمع التربية الإيمانية الرّبانية الذي تشكل أول ما تشكّل في عصر النبيّ ، في ظرف قياسي وجيز لا يتجاوز ربع قرن من الزمن، حوالي ثلاث وعشرين سنة. وهذه معجزة ربانية لا نجد لها مثيلا في تاريخ البشرية كلها. إن هذا الجيل الرباني من الرّعيل الأول كان رساليا بحق. وقد تخرّج من مدرسة النبوّة ومِشْكاتها، حيث كان النبي يربيهم وينشّئهم بالقرآن الكريم، فارتبطوا به ارتباطا وشيجا. وانتقشت آياته وسوره، حلاله وحرامه، أوامره ونواهيه، أمثاله وقصصه، في قلوبهم وعقولهم وأفئدتهم، واصطبغت بصبغتهم حتى صارت صبغة إلهية مشرقة، يترقّى بها الفرد المسلم المقْبِل على دين الله وكتابه الكريم في معراج التربية الإيمانية، "لقد كان القرآن هو المنبع الأول والمنهج المؤثّر الذي قام بتربية الصحابة، ورفعهم إلى أعلى الآفاق بعد أن كانوا في أسفل السفوح. وكان الرسول يقوم بوظيفة المعلم المربي الذي يتعاهد فعل القرآن فيهم، ويعمّق معانيه في نفوسهم، ويشرح لهم ما أشكل فهمه عليهم .. كان هو المبلغ عن الله تعالى، والمربي والقدوة العملية لتمام وكمال العبودية لله عز وجل". إنّ أحسن مثل يمكن أن نسوقه في هذا الخصوص هو هذا الجيل الرباني الأمين من الصحابة الكرام الذين تخرّجوا من مدرسة القرآن، تحت إشراف رسول الله ، مربّيهم وقُدْوتِهم ونموذجهم الأمثل في التربية والتزكية، والتضحية بالبذل والعطاء اللامتناهي.  

إن هذا النموذج التربوي الأمثل أثمر لنا منهجا تربويا ربانيا، وبيئة ربانية بالتّمام. وقد صاغه القرآن الكريم في ظرف ثلاث وعشرين سنة، بعد استكمال بنائه، وانتهاء مهمة مبلِّغه وقائده رسولنا الخاتم ، وبعد نزول آخر آية عليه ، وهي قوله تعالى: ﴿واتّقوا يَوْمًا تُرْجَعون فيه إلى اللهِ ثمَّ تُوَفَّى كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ البقرة: 280. قلت، وبالله التوفيق، إن هذا المنهج يعكس في العمق، أحوال البيئة الاجتماعية التي وُضِع فيها، "فهو إذن صورة ناصعة لأحوال هذه البيئة. ومن ثمّ فإن المناهج التربوية الإسلامية القديمة كانت تعكس هذه الأحوال في منظومتها التعليمية. ولا شك أن تلك البيئة كانت بيئة دينية إسلامية خالصة".

إن سرّ انسجام نموذج التربية القرآنية مع بيئته الاجتماعية هو تمحور كل مختلِف أنشطة حياة الأفراد والجماعات، في ذلك الجيل الرباني الأول، جيل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، حول القرآن. ففي الأسرة والمسجد، وفي التجارة والسفر والحرب والسلم، وفي التربية والتعليم، وفي العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والتجارية، في كل هذه البنيات والمجالات، كان المحرك الأساسي هو كتاب الله تعالى أولا وأخيرا، ثم سنة نبيه في المقام الثاني. إن هذه البيئة الإسلامية كانت بحق، أثرا من آثار القرآن الكريم، وشكلا من أشكال عُمْرَانه المتين الخالد. ويعلمنا ربنا عز وجل في كتابه الكريم أن من آثار هذا العمران الخالد هو تلك السحنة المبتغاة من المؤمنين الصادقين المخلصين، الذين اصطبغت شخصيتهم بصبغة القرآن، وكان على سمْتهم رداء التقوى والإيمان. يقول الحق جلّ وعلا في شأنهم: ﴿من المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه فمِنْهُم من قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْديلاً﴾ الأحزاب: 23. جاء في صحيح البخاري في الحديث المروي "عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نُرى هذه الآية نزلتْ في أنس بن النّضر رضي الله عنه: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . ويقول ابن كثير في تفسيره إن الله تعالى وصف هؤلاء المؤمنين "بأنهم استمروا على العهد والميثاق ... (فمنهم من مات) على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك، ومنهم من لم يبدّل تبديلا... بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه كفِعْل المنافقين ..".

ويجدر بنا الانتباه إلى مسألة في غاية الأهمية، ونحن نتحدث عن آثار وامتدادات نموذج التربية في القرآن الكريم، إنها مسألة القلة والكثرة وما يرتبط بهما من قضايا الطاعة والإيمان من جهة، والكفر والفسوق والعصيان من جهة أخرى. فالقرآن الكريم يؤكّد حقيقة راسخة وهي أن أكثر النّاس لا يؤمنون بالحق الذي أنزله الله تعالى إليهم بواسطة الرسل والأنبياء، وعلى رأسهم نبيّنا محمد ، يقول تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنُونَ﴾ هود: 17. ويقول عز وجل أيضا في سياق الحديث عن النبي نوح عليه السلام: ﴿وَمَا ءامَنَ مَعَهُ، إلاّ قَلِيلٌ﴾ هود: 40. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وما أكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بمؤمنين﴾ يوسف: 103. كما أن أكثر الناس لا يشكرون نعَمَ الله تعالى ظاهرة وباطنة، يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الذي أنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ والآبْصَارَ وَالأفْئدة قليلاً مَّا تَشْكُرون﴾ المؤمنون: 79، ويقول جل وعلا أيضا: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرون﴾ يوسف: 38، لأنهم لا يعرفون نعمة إرسال الرسل للناس لإرشادهم وهدايتهم لدين الحق، "أي لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل ﴿بدّلوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهُم دَارَ البَوَارِ﴾ إبراهيم: "28. كما أن قلة شكر نعمة الله مردّها إلى الطّاغي على أحوال الناس والمهيمِن على أوضاعهم، وما اعتادوه وألِفُوه بالعادات التي ورثوها عن أجدادهم. فكان ذلك إقرارا وإخبارا عن هذا الواقع الأليم، يقول تعالى: ﴿إنّهم ألْفوْا ءابَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى ءَاثارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَد ضَلَّ قَبْلَهُمُ أكْثَرُ الاوّلِين﴾ الصافات: 71). وتقترن كثرة عدم شكر الناس للنعمة والفضل وعدم إيمانهم بالحقّ، بكثرة كُرْهِهم له، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالحَقِّ وَلكِنَّ أكْثَرَكُمْ للحَقِّ كَارِهُونَ﴾ الزخرف: 78. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي بيّناه لكم ووضّحناه وفسّرناه .. ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تُقبِل عليه، وإنّما تنقاد للباطل وتعظّمه، وتصدّ عن الحق وتأباه وتبغض أهله". قال الرازي: "هذا كالعلة لما ذكر والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن، وشدّة بُغضهم لقبول الدّين الحقّ". ويقترن ذلك كله أيضا بكثرة الفِسْق والعصيان، والانحراف عن الصراط المستقيم، يقول تعالى: ﴿فآتَيْنَا الذين ءامَنُوا مِنْهُمُ أجْرَهُمْ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون﴾ الحديد: 26. يقول ابن كثير في تفسيره: "نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبّهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعْدٍ ولا وعيد". وإذا ما تأمّلنا في كل هذه الحقائق التي بسطها القرآن الكريم في ثنايا السور والآيات، من كثرة الجحود وعدم الإيمان، وكثرة عدم شكر النّعم، وكثرة كره الناس للحق والنفور منه، وكثرة فسقهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم، فإننا نجد أنّ مردّ ذلك، والله أعلى وأعلم، يرجع إلى الجهل وعدم العلم بحقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام عموما. يقول تعالى: ﴿ألاَ إنّ للهَ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ألاَ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ يونس:55، أي بسبب قصور عقول الناس، لغفلتهم التي استولت عليهم وأغلقت منافذ الحق عن قلوبهم، لا يعلمون ذلك. ولهذا قال جل وعلا في سياق آية أخرى: ﴿وما يعقلها إلا العَالِمُون﴾ العنكبوت: 43، أي ما يدركها ويستوعب ما فيها من الحِكم والعبر، والعظات إلا الذين آتاهم الله تعالى علما راسخا يعقلون به عن الله جل وعلا مراده . إن العلم المقصود هنا هو العلم الذي عقلته العقول وتشرّبتْه القلوب، فصفا ذهنها وانشرحت نفسها لتقبُّل الحق والإقبال عليه، والنّهل من ينابيعه الإيمانية الحقّة، فارتقت في معارج التربية والتزكية، بالمراقبة، والمحاسبة، والمجاهدة، ترنو إلى منازل الشّوق والعرفان، وتستشرف النعيم المقيم في الجِنان، مُسْترْخِصة كل غالٍ ونفيسٍ في هذه الحياة الدنيا الفانية، في سبيل ما عند الله وأبقى في الآخرة الباقية. إن هذه المنزلة العالية وهذا المقام الرفيع لا يتأتّى إلا للفئة التي أقبلت على الله تعالى، وتفانت في خدمة كتابه وسنّة نبيه ، إنْ قليلا أو كثيرا، فعرفت الحق وصبرت عليه، وثبّتها الله تعالى في مواقف الابتلاء العظيم، فحازت النصر الموعود بإذن الله وتوفيقه. يقول تعالى في سياق الحديث عن الملِك طالوت : ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجُنُودِ قَالَ إنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْه فلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غرفة بيده فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قليلا مِنْهُم فَلَمّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين ءامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قالَ الذين يَظُنُّون أنَّهُم مُلاقُوا اللهِ كَم من فِئَةٍ قَليلةٍ غَلَبتْ فِئَةً كَثيرَةً بإذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرينَ﴾ البقرة : 247. فالنصر والتمكين والتأييد يكون للفئة المؤمنة الثابتة على الحق، الصامدة في وجه الطاغوت، المدافعة عن قيم النبل والصدق والإخلاص، الصابرة والمُرابِطة في الثغور تدعو إلى الله بالليل والنهار، لا تخشى في ذلك إلا الله تعالى، رغم قِلّة عددها وعُدّتِها. فهي قليلة بالعدد والأفراد، كثيرة وقوية بالإيمان والعطاء المثمر. لذلك كان النصر حليفها بتوفيق الله ومَنِّه وكرمه. وهذا يعدّ في حد ذاته أثرا من آثار النموذج التربوي الذي بسط الحق تعالى معالمه في القرآن الكريم. ليس العبرة بالعدد والكمّ، وإنما العِبرة بالنوع والكيف، فالمسلمون اليوم كثيرون بالأعداد والأفراد والأوطان والبلدان، وبالخيرات المادية والرمزية، ولكنّهم ضِعاف من حيث تسلّطُ الأمم القويّة الباغية عليهم، بالاستعمار والاستغلال والاستقواء، والإغواء. وقد أنبأنا الرسول بهذا الأمر، روى أبو داود في سننه عن ثوبان رضي الله عنه قال: "قال رسول الله : "يُوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعَى الأكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيْل، ولَيَنْزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم وليَقْذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهنَ"، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهْنُ؟ قال: "حبّ الدنيا وكراهيّة الموت".

إنّ من يقوم بحمل أمانة الله تعالى وتبليغها للناس كافة في كل العصور، منذ آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، فئة قليلة تتحمّل مسؤولية التربية على الكتاب والسّنّة. وهذه سنّة الله في خلقه، فالقلة القليلة كانت دائما تنهض بأمور الدعوة إلى الله تعالى، وتحْمِل مِشْعلها بقوة وعزم وصبر وتضحية وتفان، من نوح عليه السلام إلى نبيّنا ورسولنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات. يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "اتبع طُرُق الهدى ولا يضرّك قلّة السالكين، وإيّاك وطُرُق الضّلالة ولا تغترّ بكثرة الهالكين". إن السالك إلى الله تعالى بصدق وإخلاص يظل يسير على الصراط المستقيم، وإن كان وحده أو كان معه عدد قليل من السالكين مثله "فلا يكترث، بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلّون قدْرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف : "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين...". يقول تعالى : ﴿ومَنْ يُّطِع اللهَ وَالرَّسُولَ فَأولَئكَ مَعَ الَّذينَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن النَّبيئينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ وحَسُنَ أولئكَ رفيقا﴾ النساء: 69، أي "مع أصحاب المنازل العالية في الآخرة وهم الأنبياء الأطهار والصديقون الأبرار، وهم أفاضل أصحاب الأنبياء والشهداء الأخيار، وهم الذين استشهدوا في سبيل الله، ثم مع بقية عباد الله الصالحين".

الخاتمـــــة:

تم بحمد الله وتوفيقه الانتهاء من هذه السلسلة الإيمانية، التي تناولنا فيها موضوع نموذج التربية الإيمانية في القرآن الكريم، ورأينا أنه ينصب على الإنسان من حيث هو كينونة متعددة الأبعاد ومتنوعة الخصائص، تتفاعل مع المحيط والبيئة التي يعيش فيها. ولذلك فالتربية القرآنية الموجهة لهذا الإنسان تتعدد مجالاتها الأخلاقية والنفسية والعقلية والاجتماعية والفكرية والتعليمية إلخ ... وخلصنا إلى أن نموذج الإنسان المرسوم في كتاب الله تعالى هو نموذج كوني عالمي يمكن الاصطلاح عليه بالنموذج القرآني الرباني. له ثوابت تتحدد في تلك الأصول التربوية، والقواعد الإيمانية الكلية المستمدة من الكتاب والسنة، والتي تصلح لكل زمان ومكان، ولكل المجتمعات البشرية على اختلافها، قديما وحديثا ومستقبلا إلى أن تقوم الساعة. وانطلاقا من هذا النموذج القرآني الرباني، استخلصنا المواصفات الجوهرية التي تميز مجال التربية في القرآن الكريم، وحددناها في الخاصيات التالية : الخاصية الربانية الإلهية ومصدرها الله عز وجل، والخاصية البشرية الآدمية المنسجمة مع طبيعة الإنسان فطرة وخُلُقا، والخاصية العالمية الكونية، وخاصية الشمول المتصلة بكل جوانب شخصية الإنسان، والمرتكزة على القواعد الكلية والسنن الإلهية الجارية ما دامت السماوات والأرض، ثم خاصية الثبات والاستقرار المرتبطة بالخاصية السابقة من حيث إن سنن الله تعالى لا يطرأ عليها تغيير أو تبديل، لأنها تتصف بالثبات المطلق. بالإضافة إلى خاصية التوازن التي تستجيب لمطالب الطبيعة البشرية المكونة من المادة والروح.

وبعد ذلك وقفنا عند الجهاز المفاهيمي لمجال التربية في القرآن الكريم، واستخلصنا منه مفاهيم دقيقة ودالة، تشكل في مجموعها منظومة مصطلحية متماسكة، ومنسجمة مع النموذج القرآني الكوني الذي رسم معالمه كتاب الله تعالى. وتتشكل هذه المنظومة من المصطلحات التالية: الربانية، والنفس الإنسانية، والتلاوة، والتعليم، والإصلاح، والتزكية، والإحسان. وكلها تلتقي حول مبدأ رئيس هو التكامل والترابط الحاصل بين الرؤية والممارسة، وبين النظرية والتطبيق، أو حسب الاصطلاح القرآني بين الإيمان والعمل. بالإضافة إلى كون هذه المنظومة المصطلحية تعكس في تصورها العام أنواعا من التربية الإيمانية، فهناك التربية الربانية والتربية النفسية، والتربية على التلاوة الاتِّباعية، والتربية التطهيرية النمائية، والتربية الإصلاحية الصلاحية، والتربية الإحسانية الجمالية. وكل نوع من أنواع هذه التربية له مناهجه وبرامجه ووسائله والأدوات التي يشتغل بها في الحقل المخصوص بذلك. ثم انتقلنا إلى المبحث المتعلق بالنموذج التربوي الذي صاغه الله تعالى في كتابه العزيز، ورأينا أن هذا النموذج يتكون من خمسة عناصر أساسية هي: الأسس والمبادئ الكبرى المؤطرة للتربية القرآنية، وقد حددناها في أساس جامع مانع يصب في أركان الإيمان الستة الواردة في القرآن وهي: الإيمان بالله وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقضاء والقدر. ثم مبدأ التدرج في بناء شخصية المسلم المؤمن. ويتعلق العنصر الثاني بالمضامين والمفاهيم والأهداف المركزية الحاملة للرؤية التربوية القرآنية، من خلال محورين كبيرين في القرآن الكريم هما: محور العقيدة والعبادات والمعاملات، ومحور ثان يشمل الآداب والأخلاق والسلوك. بالنسبة للعنصر الثالث في هذا النموذج التربوي القرآني فيتعلق بمواصفات وسمات المربي القدوة. فالمواصفات تشمل التعليم والتزكية، واللّين وخفض الجناح، والحِلم والرٍّفق، ثم الصبر. أما السمات فقد أجملناها في معالم معينة هي كالتالي: صبغية الشخصية المسلمة الفذة، وربانية التوجه والقصد علما وعملا، وتزكية النفس وتقويمها، ثم المبادرة إلى الإحسان في الأعمال دون انتظار النتائج. ويرتبط العنصر الرابع في النموذج القرآني بالأساليب والوسائل والطرق المستعملة حسب المقامات الإيمانية والتعبدية. وقد حددناها في ثلاثة أساليب كبرى هي: أسلوب الحوار المنبني على ضوابط وقواعد ذهبية وهي: القاعدة التعبدية الخالصة، والقاعدة التبليغية وقاعدة "لا إكراه في الدين"، ثم قاعدة "الدين النصيحة". الأسلوب الثاني هو أسلوب المثل الذي يعدُّ مدرسة تربوية قرآنية للاتعاظ والاعتبار، ويتضمن أصول وجوامع الحِكم النافعة للعباد في كلا الدارين. أما الأسلوب الثالث فهو أسلوب القصة من حيث كونه أداة للتربية والتزكية، يقتدي العبد بواسطتها بالنماذج المثلى التي يعرضها القصص القرآني. أما العنصر الأخير في هذا النموذج الكوني فهو نتائج وآثار التربية القرآنية على مستويي الفرد والمجتمع والأمة، من حيث صياغة منهج تربوي رباني يعكس في أصوله وفروعه انسجام النموذج التربوي القرآني مع البيئة الاجتماعية الإسلامية للأمة، التي تعد أثرا من آثار العمران القرآني. وإذا ما ترسخ هذا النموذج التربوي القرآني في الفرد أولا ثم الأسرة ثانيا والمجتمع والدولة والأمة ثالثا، فإنه سيصنع لنا، حقيقة جيلا من المسلمين الرساليين القياديين الذين ينهضون بشؤون البلاد والعباد في كافة مجالات الحياة. ويصبح السّمتُ المميز للأمة في ظل هذه الخصوصيات والسمات هو قول الله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللهـ الآية﴾ آل عمران: 110. فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب. وصلى الله وسلم على رسولنا المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

([1]) نظرات في التربية الإيمانية، مجدي الهلالي، ص. 128.

([2]) صفوة التفاسير، 1/158 ـ 159، أنظر أيضا : تاريخ القرآن الكريم، د. محمد سالم محيسن، ص. 42.

([3]) مقومات بناء المناهج التربوية بمؤسسات التعليم العتيق، د. عبد الكامل أوزال، الملتقى الدراسي الثاني لرابطة مؤسسات التعليم العتيق بمكناس، 1431ه - 2009م

([4]) صحيح البخاري : البخاري، ج. 3، كتاب التفسير، باب : ﴿فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا، رقم الحديث : 4783، ص. 980.

([5]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/235-237.

([6]) تفسير القرآن العظيم، نفسه، 4/271.

([7]) نفسه، 6/314.

([8]) نفسه، 7/183 ـ 184.

([9]) صفوة التفاسير، 3/154.

([10]) صفوة التفاسير، 3/308.

([11]) نفسه، 1/547.

([12]) نفسه، 2/424.

([13]) سنن أبي داود، أبو داود، كتاب الملاحم، باب : في تداعي الأمم على الإسلام، رقم الحديث 4297، ص. 748.

([14]) الاعتصام، الشاطبي، المجلد الأول، فصل : ما جاء عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذمّ البدع وأهلها، ص. 112.

([15])  السالكين، ابن قيم الجوزية، الجزء الأول، نفسه، ص. 21.

([16]) صفوة التفاسير، 1/263.


: الأوسمة



التالي
"الإسلاموفوبيا" تتصاعد.. جريمتان جديدتان ضد مسلمي إسبانيا
السابق
رئيس الاتحاد وأمينه العام في استقبال وزير الشؤون الدينية في مالي والوفد المرافق له

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع