على الصين أن لا تخْسَر المسلمين كما خسِرَتْهم أميركا
د. محمد مختار الشنقيطي
من الأفلام السياسية الصينية التي أتيح الاطلاع عليها مؤخرا فيلم "عملية البحر الأحمر"، وفيه تتدخل نخبة من القوات الصينية الخاصة في خليج عدن، لإنقاذ مئات الصينيين في دولة من دول القرن الأفريقي التي تمزقها الحرب الأهلية، ويظهر من سحنة المقاتلين -الذين تستهدفهم قوات النخبة الصينية- ومن ألسنتهم وهيئات لباسهم أنهم مسلمون من أصول عربية وأفريقية. ثم تعرّج القوات الصينية الخاصة على بلدة في الصحراء العربية، لتصادر بشجاعة خارقة كمية من مستخلص اليورانيوم المعروف إعلاميا بــ"الكعكة الصفراء" من أيدي إرهابيين، كان بإمكانهم استخدامه في إنتاج ما يسمى "القنبلة القذرة". وفي نهاية الفيلم، تعود قوات النخبة الصينية المظفَّرة إلى بلادها، لكن بعد أن تطرد السفن الأميركية من بحر جنوب الصين.
على أن ما يهمنا في فيلم "عملية البحر الأحمر" هو دلالاته السياسية والإستراتيجية، فهذا الفيلم الذي موله الجيش الصيني بما يزيد على 70 مليون دولار -حسب تقارير صحفية- ليس عملا فنيا بريئا، بل هو تعبير عن طموح أمة صاعدة، وإشارات معبرة عن رؤية تلك الأمة لساحات المواجهة القادمة، وهو يذكّر بأفلام هوليوود الأميركية ذات اللون السياسي الفاقع؛ فاختيار خليج عدن والقرن الأفريقي والبحر الأحمر والصحراء العربية ساحاتٍ للمعارك في هذا الفيلم ليس سوى تعبير عن الرؤية الإستراتيجية الصينية لصراعها القادم مع القوى الغربية على قلب العالم الإسلامي.
وحين يصدر هذا العمل الفني ذو الرسالة السياسية الصريحة في وقت يتعمَّق فيه الصراع على العالم الإسلامي بين القوى الأميركية المُدْبرة والقوى الصينية الـمُقبلة، فإن الأمر يستحق التأمل حقًّا، خاصة أن العالم الإسلامي الممتد من شمال أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا يغطي اليوم جل المنطقة التي دعاها عالِم الجغرافيا السياسية البريطاني جيمس فيرغريف (1870-1953) "منطقة الارتطام" (The Crash Zone)، لأنها المنطقة التي تتصارع عليها كبرى القوى البحرية والبرية عبر التاريخ، منذ الصراع الفارسي اليوناني، إلى المغول والصليبيين، إلى الإمبراطورية البريطانية وروسيا القيصرية، إلى أميركا والاتحاد السوفياتي، إلى الصين وأميركا اليوم.
ولا يكاد يختلف المتأملون في تحولات النظام الدولي اليوم في أن أكبر حقيقة صلبة فيها هي التمدد الصيني والانحسار الأميركي؛ فالمعجزة الاقتصادية الصينية التي بدأت منذ 40 عاما تتم ترجمتها اليوم إلى نفوذ سياسي وطموح إستراتيجي، لم يعد التعبير عنهما مجازا وتورية دبلوماسية، بل أصبح تعبيرا صريحا على ألسنة القادة الصينيين، وخططا مسطورة في الأوراق الإستراتيجية التوجيهية التي تصدر عن مراكز صنع القرار الصيني.
فهل ستأخذ الصين العبرة من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها القوى الغربية في العالم الإسلامي، أم أنها ستسير على خطى تلك القوى في عدم منح أي اعتبار إستراتيجي للمسلمين، والتعامل مع بلدانهم على أنها مجرد ساحة معركة لا على أنها طرف في المعادلات الإستراتيجية، والاصطدام بصخرة التاريخ والجغرافيا في العالم الإسلامي، كما اصطدمت بها القوى الغربية من قبلُ، فخسرت في النهاية
يقدم المفكر السياسي الأميركي جون ميرشايمر نظرية في صعود القوى الدولية وهبوطها، ترى أن أحسن طريقة للصعود والسيطرة على النظام الدولي هي أن تتحول الدولة إلى قوة إقليمية في محيطها، ثم تمنع بروز قوة إقليمية أخرى في محيط تلك الدولة، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة في التاريخ المعاصر؛ فقد احتكرت القوة في محيطها الإقليمي، وهو القارة الأميركية، ثم حرصت على حرمان أي دولة أخرى من التحول إلى قوة إقليمية في بيئتها، سواء ألمانيا النازية، أو الاتحاد السوفياتي، أو الصين الشعبية.
وبناء على هذه النظرية يذهب ميرشايمر إلى أن الصدام بين الصين وأميركا أمر حتمي، حيث ستسعى أميركا إلى "احتواء" الصين بجيرانها القريبين منها (بما فيهم روسيا)، على نحو ما احتوت الاتحاد السوفياتي بجيرانه -بما فيهم الصين- وسترد الصين بعنف على ذلك، وتعتبره "تطويقا" لها، وعدوانا على حقها الطبيعي في النفوذ والتمدد باعتبارها قوة دولية. فالصين ليست دولة "أمر واقع" كما يقول ميرشايمر، بل هي دولة ساعية إلى تغيير الواقع العالمي.
فالصراع الصيني الأميركي -كما يراه ميرشايمر- هو الحقيقة الكبرى التي ستطبع النظام الدولي بطابعها الخاص خلال القرن الواحد والعشرين. أما القوى الأوروبية التي كانت ملء السمع والبصر في القرن العشرين، فهي اليوم "متحف وقصَّة من الماضي" حسب تعبيره. ويبدو أن اتفاق "أوكوس" (Aukus) الأخير بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا يزكِّي نظرية ميرشايمر، فهو يشبه بداية التطويق البحري الأميركي للصين بحلف أنجلوساكسوني، قد يضم إليه مستقبلاً اليابان والهند ودولا آسيوية أخرى لديها عداوة أو منافسة تاريخية مع الصين.
على أن صعود الصين وما تطمح إليه من التمدد والرسوخ الإستراتيجي على مستوى العالم يتوقف -إلى حد بعيد- على تعاملها مع العالم الإسلامي الذي تحدها منه عدة دول عند خاصرتها الغربية في آسيا الوسطى والجنوبية: وهي باكستان وأفغانستان وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. وهذه الدول هي بوابة الصين البرية إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ومتنفسها إذا اشتد عليها الحصار الغربي في بحر جنوب الصين، ومدخلها إلى مدِّ مشروعها الضخم "طريق الحرير الجديد" الذي تسعى به إلى الهيمنة الاقتصادية على العالم. كما تعتمد الصين -التي هي أكبر مستورد للطاقة في العالم- على النفط والغاز الواردين من دول إسلامية في منطقة الشرق الأوسط، حيث تستورد نحو نصف وارداتها من هذه الدول. وعلى بحر جنوب الصين، وهو ساحة المواجهة الصينية الأميركية الساخنة اليوم تطل دول مسلمة ذات وزن، منها إندونيسيا وماليزيا.
فهل ستأخذ الصين العبرة من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها القوى الغربية في العالم الإسلامي، أم أنها ستسير على خطى تلك القوى في عدم منح أي اعتبار إستراتيجي للمسلمين، والتعامل مع بلدانهم على أنها مجرد ساحة معركة لا على أنها طرف في المعادلات الإستراتيجية، والاصطدام بصخرة التاريخ والجغرافيا في العالم الإسلامي، كما اصطدمت بها القوى الغربية من قبلُ، فخسرت في النهاية، على نحو ما رأينا في نهاية المغامرة الأميركية في أفغانستان والعراق بعد عقدين من التخبط الإستراتيجي؟!
فالموقف الصيني أقلُّ نفاقا من الموقف الغربي، الذي ينادي بالديمقراطية ويدعم الدكتاتورية، ويرفع شعار حقوق الإنسان بطريقة انتقائية فجة، بعيدا عن أي انسجام أخلاقي في المواقف
ليس واضحا للمحللين الإستراتيجيين ما هي مقاصد الصين ونياتها تجاه التعامل مع العالم الإسلامي، سواء الشِّق الآسيوي منه المحاذي للصين برا وبحرا، أو الشِّق العربي والأفريقي الذي يشتمل على الطاقة والمواد الخام، وعلى المضايق الحيوية للتجارة الدولية. لكن يمكن القول إن من الخير للصين أن تقبل العالم الإسلامي كما هو، وأن لا تسعى إلى اختراقه سياسيا وثقافيا على نحو ما فعلت القوى الغربية وروسيا على مدى قرنين من الزمان. فليس لدى الصين تاريخ استعماري في هذه المنطقة، بخلاف روسيا والدول الغربية، بل هي نفسها كانت ضحية استعمار ياباني وغربي وحشي في العصر الحديث، وكانت تقليديا متعاطفة مع تحرر الشعوب من الاستعمار، بما في ذلك دعمها السياسي للثورة الجزائرية المجيدة.
وكانت السياسة الخارجية الصينية في العالم الإسلامي تتسم -إلى عهد قريب- بالكثير من الرزانة والتحفظ. فبخلاف الدول الغربية ذات المواريث الاستعمارية والاختراق الإستراتيجي للمنطقة فإن الصين لا تزعج الأنظمة برفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تزعج الشعوب بالسعي إلى التأثير في هويتها أو القرار الإستراتيجي الداخلي في دولها. فاستطاعت الصين أن تكسب كل الأطراف في المنطقة، من خلال ما لا تفعل، أكثر من كسبها لهم من خلال ما تفعل؛ فالموقف الصيني أقلُّ نفاقا من الموقف الغربي، الذي ينادي بالديمقراطية ويدعم الدكتاتورية، ويرفع شعار حقوق الإنسان بطريقة انتقائية فجة، بعيدا عن أي انسجام أخلاقي في المواقف، على نحو ما شرحه الباحث بمؤسسة "بروكينز" الأميركية، شادي حميد، في مقال صدر له مؤخرا عن الموقف الأميركي من انقلاب قيس سعيّد في تونس، تحت عنوان: "تونس وعودة النفاق الأميركي".
وبهذه السياسة الرصينة استطاعت الصين أن تكسب الأنظمة في العالم الإسلامي من دون أن تخسر الشعوب. أما أميركا فقد خسرت شعوب العالم الإسلامي منذ أمد بعيد، وهي توشك اليوم على خسارة الأنظمة السياسية على المدى البعيد. وقد بدأت في التخلي عن حلفائها التقليديين في منطقتنا، قبل أن تتخلى عن حلفائها الغربيين في أوروبا. ونحن نعيش اليوم توجُّه أميركا إلى منطقة شرق آسيا، وبداية تحررها التدريجي من أي التزام إستراتيجي تجاه حلفائها التقليديين في العالم الإسلامي -خاصة في منطقة الشرق الأوسط- وتركها بعضهم في حالة هلع وانكشاف إستراتيجي كامل.
وقد استفادت الصين -بحصافتها- من النظام الأمني الإقليمي الذي أرساه الأميركيون في الشرق الأوسط -في الخليج خصوصا- من دون أن تدفع ثمنه. ففي حين كانت القوات الأميركية تطوّق الخليج بأساطيلها لعقود من أجل تأمين خطوط تصدير الطاقة وتخنق الشرق الأوسط بقواعها العسكرية، كانت الصين تستورد من طاقة المنطقة أكثر مما يستورده الأميركيون، وتستخدم مضايق المنطقة (هرمز، باب المندب، قناة السويس) في تجارتها الدولية أكثر من أي دولة أخرى. ونجد الصين اليوم تجني الثمار في أفغانستان بعد أن أحالها الروس والأميركيون بلاد الأفغان أرضا يبابا على مدى 4 عقود، ولم يجن أي منهم ثمرة سياسية أو اقتصادية من غزوه الغاشم لأفغانستان.
وربما ترجع هذه الحصافة السياسية الصينية إلى أسباب ثقافية وإستراتيجية، فمن الأسباب الثقافية ميلُ الصين تاريخيا إلى الاكتفاء والانكفاء على الذات، وهو ما يرمز له سور الصين العظيم، الذي يعتبر من أعظم المنشآت الدفاعية والعمرانية ومن أطولها عمرا في التاريخ البشري. ويبدو أن الثقافة الصينية فيها شيء من الصبر الإستراتيجي ذي الجذور التاريخية العميقة التي ترجع إلى أيام المنظّر الإستراتيجي الصيني صن تسو صاحب كتاب "فن الحرب"، الذي لا يزال يدرَّس اليوم في الكليات الحربية عبر العالم، رغم مرور أكثر من 25 قرنا على تأليفه.
إن اضطهاد المسلمين الإيغور أحدث جرحا عميقا في قلوب المسلمين في كل أرجاء العالم، ويمكن لهذا الجرح أن يسمِّم العلاقات الإستراتيجية المستقبلية بين الصين والعالم الإسلامي. ومما يعمِّق هذا الجرح أن الصين استهدفت الإيغور في أمور الدين والعِرض ذات الحساسية الخاصة في الثقافة الإسلامية
وبخلاف الدول الغربية ذات النزعة الاستعلائية تجاه المسلمين، فإن الصين كانت دائما أكثرَ تواضعا وأقلَّ تبجحا في تعاملها مع الشعوب الأخرى، بما فيها الشعوب الإسلامية. وينضاف إلى ذلك أن الصين أكثر انفتاحا على المسلمين في مجال نقل التكنولوجيا العسكرية، كما تدل عليه علاقاتها الراسخة مع باكستان في هذا المضمار. وهذا تاريخ مهم يمكن البناء عليه. بينما نجد أن أميركا والدول الغربية الأخرى هي أبخل الناس بالتكنولوجيا العسكرية إذا تعاملت مع دول مسلمة، وأحرصها على إبقاء الدول الإسلامية متخلفة عسكريا، حتى وإن كانت تلك الدول حليفة لها على مدى عقود مديدة. وآخر مثال على ذلك اليوم هو التعامل الأميركي الفجّ مع تركيا في صفقة طائرات "إف-35" (F-35) الأميركية، وصواريخ "إس-400" (S-400) الروسية.
وتبقى قضيتان تشوشان على أي تقارب إستراتيجي عميق بين الصين والعالم الإسلامي، وهما موقف الحكومة الصينية من ثورات الشعوب العربية، واضطهادها المسلمين الإيغور. فقد وقفت الصين مع روسيا ضد الثورات العربية، واستخدمتْ حقَّ النقض في مجلس الأمن الدولي أكثر من مرة، لمنع أي تهديد لنظام بشار الأسد في دمشق (رغم أن أميركا وأوروبا لم تكونا يوما جادتين في دعم الثورة السورية أو في إسقاط الأسد على أي حال). لكن ليس من الواضح ما إن كان هذا الموقف الصيني من الثورات العربية مجرد مجاملة لروسيا جراء التقارب الصيني الروسي، أم هو نابع من منظور إستراتيجي صيني للمنطقة ومصائرها السياسية.
وتبقى قضية الإيغور المسلمين هي أخطر القضايا في العلاقات الصينية الإسلامية، فرغم أن الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم الإسلامي لم تجرؤ -حتى الآن- على الضغط على الصين لإنصاف مسلميها، فإن اضطهاد المسلمين الإيغور أحدث جرحا عميقا في قلوب المسلمين في كل أرجاء العالم، ويمكن لهذا الجرح أن يسمِّم العلاقات الإستراتيجية المستقبلية بين الصين والعالم الإسلامي. ومما يعمِّق هذا الجرح أن الصين استهدفت الإيغور في أمور الدين والعِرض ذات الحساسية الخاصة في الثقافة الإسلامية.
في روايته "ليالي تركستان" الصادرة في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، يصور الأديب الطبيب المصري الدكتور نجيب الكيلاني (1931-1995) محنة المسلمين الإيغور في الثلث الثاني من القرن العشرين مع صعود الحكم الشيوعي في الصين. ويعبّر بعمق عن إحساس الكرامة الجريحة لديهم حين يدنس الشيوعيون مقدساتهم الإسلامية، أو يرغمونهم على تزويج بناتهم من غير المسلمين. وفي هذا السياق، ينقل الكيلاني على لسان بطل الرواية (مصطفى) قوله: "وفي يوم من الأيام، أصدر القائد الصيني منشورا هزَّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها، هذا المنشور يُلزم أيَّ تركستاني بأن يزوج ابنته من أي صيني يتقدم لطلب يدها، رغم اختلاف العقيدة. إن الاحتلال أمر مؤقَّت قد يزول في يوم من الأيام، والمعركة مع العدوّ كرٌّ وفرٌّ، أما أن يدوس العدوُّ مشاعر الناس، ويحتقر شرائعهم، ويسْخر من دينهم، فهذا أمر فوق الطاقة".
وقد قدم الباحث محمد هدى برايوغا رسالة جامعية لطيفة عن "القيم الاجتماعية في رواية ليالي تركستان"، في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة "شريف هداية الله" الإندونيسية في جاكرتا، فصَّلت الحديث في هذا الموضوع تفصيلا. ولكن يبدو أن النخبة السياسية الصينية لم تفلح في فهم الثقافة الإسلامية حتى الآن، وإلا لما كانت تكرِّر اليوم ما صوره ذلك الأديب المصري في روايته عن حقبة الثلاثينيات والأربعينيات في تركستان الشرقية (منطقة الإيغور). وكأنما تسير الصين هنا على خطى الأميركيين فيما اقترفوه من آثام ضد الدين والعِرض في العراق وأفغانستان، جرَّاء العنهجية والجهالة.
من المفهوم أن تحرص الصين على وحدة أراضيها، شأنها شأن كل الدول في العالم، لكن الأمر لا يحتاج إلى سياسات الإبادة والمحْق الثقافي التي تنتهجها تجاه المسلمين الإيغور اليوم. ويستطيع الساسة والعلماء المسلمون التوسط بين الحكومة الصينية ومواطنيها الإيغور، لإيجاد صيغة سياسية تحفظ على المسلمين الإيغور عقيدتهم وهويتهم الإسلامية، وتحترم وحدة الدولة الصينية. والواقع أن إقليم تركستان الشرقية هو -بمنطق الجغرافيا السياسية- البوابة الطبيعية للصين على العالم الإسلامي، فلو عامل القادة الصينيون سكانه المسلمين بإنصاف واحترام، فسيتحول هذا الإقليم جسرا رابطا بين الصين والعالم الإسلامي، يعيش أهله في ازدهار ورخاء، ويفتح للصين آفاقا اقتصادية وإستراتيجية كبرى، عند بداية طريق الحرير الصيني الجديد. وهذا أفضل للجميع من وضْع هؤلاء المسلمين في حالة بؤس واضطهاد، وتحويل محنتهم شوكةً في العلاقات الإسلامية الصينية.
منذ أكثر من ربع قرن، تنبأ الفيلسوف السياسي الأميركي صامويل هنتنغتون (1927-2008) بتوثُّق العلاقات الصينية الإسلامية "باتجاه إنشاء حلف عالمي ضخم لمنازلة الغرب في حرب حضارات عظمى"، وفي حديث هنتنغتون -كعادته- شيء من المبالغة والتحيز السافر ضد المسلمين وضد الصينيين، لكنه كان سبَّاقا إلى إدراك مركزية الدين في العلاقات الدولية، وإلى تلمُّس التحولات القادمة في النظام الدولي، وهي تحوّلات تفتح أمام الصين والعالم الإسلامي أبوابا جديدة من التعاون الإستراتيجي. ولو كانت أميركا وحلفاؤها الأوروبيون سلكوا مسلكا أقلَّ نفاقا في علاقتهم بالشعوب المسلمة، وانتهجوا نهجا أقل تدخلا في الشأن السياسي والثقافي الداخلي للمجتمعات الإسلامية، لكانت الهوية الإسلامية والديمقراطية الإسلامية درعا حصينا ضد الزحف الصيني القادم من الشرق. لكن الاستئسار للمواريث الاستعمارية -التي أكل الدهر عليها وشرب- يقود إلى العَمَى السياسي والإستراتيجي