حماية البيئة في الدولة الحديثة المسلمة؛ نحو تأسيس وعي بيئي في حياة المسلمين
علي محمد الصلابي
حرص الإسلام على حماية البيئة بكافة مكوناتها وذلك بإنشاء تصور كامل للحياة ونظامها وما تتطلبه من نهضة أو تطور وفق قواعد ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مع تغير الزمان والمكان، وهذا ما يعطي المبادئ البيئية الإسلامية صفة الصلاحية التي تحقق لأفرادها السعادة والرخاء في الدنيا والآخرة، والمبادئ الإسلامية للبيئة لم تكن ضرباً من الخيال ولا أسطورة من أساطير اليونان والرومان وإنما هي جزء من الفطرة التي فطر الله عليها الناس، في توجه صادق إلى خالق الخلق كله، قال تعالى : ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم، آية : 30).
فالطبيعة بما فيها من موارد هبة الله لعباده من ماء وتربة وشمس وهواء، فمن حق الإنسان في هذا المجتمع أن تحفظ له ـ إن أمكن ـ هذه الموارد الطبيعية التي ساقها الله تعالى إليه، غير أن الحضارة الحديثة رغم خدماتها وإنجازاتها التي لا تنكر جرّت على الجسد البشري ويلات كثيرة، سوى إصابات العمل التي سلف ذكرها، منها تلوث البيئة.
فالبيئة هي المنزل وما يحيط بالفرد أو المجتمع ويؤثر فيهما، يقال: بيئة طبيعية، وبيئة اجتماعية، وبيئة سياسية، والمقصود هنا الأول ـ الطبيعة ـ التي هي مدار حديثنا، وأما التلوث فهو التلطخ، وتلوث الماء أو الهواء ونحوه، خالطه مواد غريبة ضارة.
والإسلام دعا إلى سلامة البيئة وإفسادها على الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم أكد هذه المعاني، بدعوته إلى تطهير البيئة من المفاسد التي تلوثها منها:
أ ـ النهي عن البول في الماء الراكد:
الماء نعمة من الله تعالى خلقه ليشرب منه الناس، ويغسلون ويسقون حيواناتهم ومزروعاتهم، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء، آية : 30).
هذه النعمة ـ الماء ـ تنقلب إلى ضرر محض إذا عبثت به يد الإنسان بالتلوث، وكم من الأمراض تنشأ من المستنقعات ذات المياه الملوثة، لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلويث الماء سيما الراكد منه، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه نهى صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد، لأن الجاري متغير متبدل لا تتحقق فيه علة الضرر ـ التلويث ـ على الكائنات الحية بخلاف الراكد.
ب ـ تطهير المساجد وتطبيقها:
تجمع تعاليم الإسلام بين الحرص على النظافة واللين والمسامحة، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «مه مه»، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه»، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن»، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه، فلا شك أن هذا الأعرابي الحديث عهد بالإسلام لم يكن يقيم وزناً للبيئة، ولم يعرف تعاليم الإسلام بعد، فبال في أطهر مكان وأكرم بيئة بعد بيت الله الحرام، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المساجد لا يليق بها هذا الأمر، غير منفر ولا مفنّد ولما كان فرش المسجد النبوي الشريف الحصا فإن صبّ بعض الماء على البول يكفي، كما أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تلويث المسجد بالبزاق ونحوه، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط من الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة، تكون في المسجد لا تدفن»، بل أمر بتنظيف المساجد وتطييبها، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيّب.»
ج ـ نظافة الطرق والمرافق العامة:
إن أكثر الأماكن التي يرتادها الناس الطرق العامة وموارد المياه وأماكن الجلوس، كالظل ونحوه، لذا حذر الإسلام من تلويثها خاصة فإن ذلك يكون إيذاء للناس من جهة، لأنها أماكن لا غنى لهم عنها، ومجلبة للعن فاعله من جهه ثانية، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل».
فلا شك أن تلويث هذه الأماكن أكثر ضرراً من غيرها، فالناس يكثرون فيها فيحصل الضرر، لذا كان التحذير منفراً واصفاً الفعل بأنه مجلبة محصنة للعن الناس وشتمهم لأن الطباع السليمة تنفر من ذلك فضلاً عن تلويث البيئة ويمكن أن يقاس على ذلك من يدخن في الصالات العامة والحافلات والأماكن العامة، لأنه إنشاء لأذى وضرر في أماكن يرتادها الناس، فيفسد البيئة ويستجلب لنفسه اللعن.
د ـ عدم حجب الريح عن الجار:
لقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن الهواء الطلق من حق الإنسان أن يشمه ولا يجوز أن يحجب عنه بحال، فقال مخاطباً الجار في حسن الجوار: «ولا تستظل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه». فهذا الحديث إرشاد للجار، وإشارة إلى أن الهواء من حق الإنسان لا يجوز حجبه عنه إلا بإذنه، ويلحق بذلك أشعة الشمس لأنها أكثر أهمية في بعض البلدان والأماكن والفصول فالهواء والشمس من عناصر البيئة الطبيعية، لا يجوز التفريط بهما وإذا كان حجب الريح عن الجار مرفوض، فمن باب أولى ألا يضع القمامة أمام داره، أو أن يرفع صوت المذياع والمسجل والتلفاز، فيؤذيه بالصخب، وأن لا يفتح على داره فوهات دخان الحمامات والمطابخ، فكل ذلك يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضَرر ولا ضِرار»، ومما تقدم تبيّن لنا حرص الإسلام على البيئة، ففي نظافتها ونقائها طيبة النفوس، وسلامة الأجساد، ولما كان الغراس والزرع يزيد البيئة نضارة وجمالاً حث عليه الإسلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
*ـ الملوثات الحديثة للبيئة:
كانت ملوثات البيئة في الماضي ساذجة ويسيرة، وقد توسعت في العصر الحديث نتيجة الثورة الصناعية، فجاء بعضها مؤثراً على السمع كالصخب أو ملوثاً للهواء كالدخان والغازات وبعضها الآخر مشوهاً للأجساد، كالتلوث الإشعاعي، ومنها ما يبعث الروائح الكريهة وينقل الجراثيم وهي الملوثات بالفضلات الآدمية كالقمامة وغيرها.
ـ الصخب وأثره على السمع:
هناك صخب يشوه البيئة ويعكر صفوها ويصم الآذان معرضاً إياها للصمم أحياناً مثل: أزيز الطائرات، وأصوات السيارات، ومحركات المصانع، وطنين المراوح وأجهزة تكييف الهواء، وصفير الراديو والتلفاز، فهذا الصخب الدائم الضوضاء يتسبب في انكماش الأوعية الدموية، وشحوب الجلد، وانقباض العضلات، ويندفع "الأدرونالين" في مجاري الدم، حيث يحدث توتراً عصيباً.
ـ التلوث بالدخان والغازات:
إن دخان المصانع والقطارات وغاز السيارات العادم واحتراق الغابات، وتقلص الأشجار الخضراء، ضربة خطيرة للجسد البشري، عندما أحدث تلوث الهواء الذي هو بأمس الحاجة إليه غير أنه يمكن الحد من هذا التوث بالعمل على توسيع الرقعة الخضراء، وذلك بغرس الأشجار.
ـ التلوث الإشعاعي:
إن المخلفات بلاء على البشرية وخطر عظيم على الجسد البشري، يشوهه إذا لم يفنيه، إذا أهملت ولم يمكن التخلص منها، لذا يجب أن توضع في أوعية لا تتآكل أو تصدأ حيث لا توجد كائنات حية، وحيث لا تكشفها الظواهر الجيولوجية كالزلازل فتعيدها للوجود.
ـ التلوث بالفضلات الآدمية:
من المعلوم أن القمامة لها أثر سيىء على البيئة، فمنها تنبعث الروائح الكريهة والجراثيم المختلفة والناقلة للأمراض، وكل ذلك يصل إلى الجسد البشري عن طريق الهواء وغيره، ويمكن التخلص من التلوث بهذه بأن توقد في مراجل المصانع، فبذلك يتخلص بها من جهة، ويستفاد منها كطاقة من جهة ثانية.
كما أن مجاري المياه ـ البواليع ـ تشكل خطراً لا يقل عن خطر القمامة، وإن لم يكن أكثر، فهي تفسد البيئة أيمّا إفساد إذا لم يحسن إحكامها وتصريفها، فإذا تجمعت في منخفض من الأرض شكلت مستنقعات من الجراثيم الناقلة للأمراض وإذا ما سلطت هذه على مياه الأنهار أو البحار كان التلوث المائي أيضاً، والأحسن في ذلك سقاية المزروعات بها مع الحذر الشديد، وإشراف أهل الخبرة الزراعية والصحية على ذلك لأن الحاصل من تلوث الماء هو عين ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث "البراز في الموارد". والأحسن من ذلك كله أن تعالج هذه المياه لتخليصها من الميكروبات الضارة الناقلة للأمراض والمواد السامة.
هذه بعض الملوثات الأساسية للبيئة: الصخب والدخان والغازات السامة، والإشعاع الذري، والفضلات الآدمية وغيرها كثير، إنما اقتصرت في الدراسة على هذه الأنواع لأنها أكثر شمولية وأشد خطراً على الجسد البشري من غيرها فهناك التلوث بالنفايات النفطية، من جراء غسل وتنظيف ناقلات النفط في البحار، وهناك التلوث المعدني والكيماوي الناشىء عن إلقاء فضلات المصانع الكيماوية والبتروكيماوية، ومصانع الفولاذ على السواحل والتي تلقى في مياه البحار أيضاً، كما يجب أن لا يفوتنا خطر الأسلحة الحديثة الملوثة للجو المشوهة للأجساد فهي الخانقة أحياناً، والقاتلة أحياناً أخرى والتي لا يقف خطرها عند حدود الجيوش العسكرية، بل تتعداهم إلى عامة الناس، ولا تزال آثار التشوه النووي لدى اليابانيين من جراء تفجير القنبلة الذرية عام 1945م على هيروشيما وهذه الأسلحة مثل:
ـ الأسلحة النووية، كالقنابل الذرية والهيدروجينية والنيتروجينية.
ـ الأسلحة الكيماوية، كالغازات الحربية والمواد الحارقة "كالنابالم" والمواد الدخانية.
ـ الأسلحة البيولوجية، وهي تستخدم في صور مستحضرات بيولوجية سائلة أو جافة من الميكروبات المعدنية، أو استخدام الحشرات الناقلة للأمراض وسيلة لنقل الميكروبات.