بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
كانت إمارة الرُّها الصليبية أولى الإمارات التي تأسست في الشرق الإسلامي سنة 491 هـ/1097 م بزعامة بلدوين الأول ، الذي استمرَّ في حكم هذه الإمارة حتى سنة 494 هـ/1100 م حين انتقل إلى حكم بيت المقدس عقب وفاة (جورفرى) ملك بيت المقدس(الغامدي، 1986 ص 230).
وقد تميزت الرُّها عن بقية الإمارات الصليبية بموقعها في الحوض الأوسط لنهر الفرات ، حيث تحملت عبء الدفاع عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام ، وذلك لقربها من الخلافة العباسية ، ثم لوقوفها في وجه التركمان الذين تعج بهم منطقة الجزيرة عقب التفكك الذي أصاب السلاجقة في بلاد الشام والعراق ، عقب وفاة السلطان ملـكشـاه 485 هـ/1092 م (حسنين، 1959، ص84) ولم تـقتصر أهميـة الرُّهـا على موقعها الاستراتيجي وكونها خط الدفاع الأول عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام ، بل إنها شكلت خطراً أساسياً على خطوط المواصلات الإسلامية بين الشام واسيا الصغرى والعراق ومنطقة الجزيرة(الجنزوري، 2001 ، ص 34)
وممَّا يوضح ذلك: أن الحملة التي قام بها كربوقا صاحب الموصل سنة 491 هـ/1098 م نجدةً للمسلمين بأنطاكية قد تعطلت بعض الوقت حول الرها في محاولة لانتزاعها من بلدوين الأول ، وعلى الرغم من أن الرُّها لم تقع في نطاق الأراضي المقدسة في فلسطين ، فقد عدَّها الصليبيون من أشرف المدن عندهم بعد بيت المقدس، وأنطاكية، والقسطنطينية، فهي وفيرة الثروات ساعدت أمراء الرُّها على توسيع رقعتهم ، فامتدت إمارة الرُّها الواقعة على ضفتي نهر الفرات من راوندا وعين ثاب غرباً إلى مشارق شرقاً ، ومن بهنسي ، وكيسوم شمالاً إلى منبج جنوباً( عاشور، 1986،ج 1ص 424)
واكتسبت الرُّها أهمية بما تهيأ لها من حكام اتصفوا بالقوَّة ، والشجاعة ، واستطاعت الصمود في وجه المقاومة الإسلامية ، على الرغم من أن الرُّها كانت تعاني من نقطتي ضعف واضحتين؛ أحدهما الحدود الطبيعية إذ لا توجد لها موانع طبيعية تحميها وتكسبها وقاية ومناعة ، وثانيها عدم وجود تجانس بين سكانها؛ إذ كانوا خليطاً من المسيحيين الشرقيين «السريان ، والأرمن ، واليعاقبة» ومن الصليبيين الغربيين ، فضلاً عن المسلمين الذين تركزوا في مدن بكاملها كسروج ، والبيرة التي خضعت للصليبيين. ولم تقتصر أهمية الرُّها على الجانب الصليبي ، بل كانت في نظر المسلمين من أهم المواقع التي يجب السيطرة عليها ، فقد ذكر ابن الأثير مكانتها في بلاد الجزيرة بسبب موقعها بين الموصل ، وحلب ، ولهذا وصفها بأنها من الديار الجزرية عينها وخصها من البلاد الإسلامية ، مما جعل القوى الإسلامية سواء في العراق ، أو الشام ، أو الجزيرة ترغب في السيطرة عليها(الجزري، 1963 ص 66 ، 67 ).
1 ـ أوضاع إمارة الرُّها الداخلية:
كانت ظروف الرُّها الداخلية مؤاتية لعماد الدين زنكي؛ إذ اتصف أميرها جوسلين الثاني بضعف الشخصية ، وانسياقه وراء العواطف والأهواء وعدم امتلاكه مقدرة سياسية ، وبعد نظر ، والواقع: أنَّ جوسلين الثاني تأثر في نشأته بالميول الأرمنية بفعل أن والدته كانت منهم ، فترعرع وفي نفسه ميل إلى الأرمن وغيرهم من السكان الأصليين من الطوائف النصرانية الشرقية وفضَّلهم على النصارى الغربيين.الأمر الذي أثار الفرسان الصليبيين، وأوجد نوعاً من عدم الاستقرار داخل الإمارة.
2 ـ عمليات الفتح:
استغلَّ عماد الدين زنكي الظروف السابق ذكرها ، وسعى إلى تدبير خدعة تتيح له تحقيق هدفه من أقصر طريق. وكان يعلم: أنه لن يستطيع أن ينال غرضه من الرُّها ما دام جوسلين وقواته موجودين بها ، وهكذا انصب اهتمامه على إيجاد وسيلة تدفع غريمه إلى مغادرة مقر إمارته ، فاتجه إلى امد ، وأظهر أنه يعتزم حصارها ، وأنها هدفه دون غيرها ، وبث عيونه ـ في الوقت نفسه ـ ليطلعوه أولاً بأول على تحركات أميرها الذي ما إن رأى انهماك زنكي بحروبه في ديار بكر ، وعدم تفرغه للهجوم على المواقع الصليبية؛ حتى غادر مقر إمارته على رأس قواته، بعد أن اتخذ إجراء احتياطياً بأن عقد هدنة مع قرا أرسلان صاحب حصن كيفا ، الذي كان قد التجأ إليه بعد تهديد زنكي لإمارته ، ومن ثم اتجه إلى تل باشر الواقعة على الضفة الغربية للفرات ، كي يتخلص هناك من كل مسؤولية ، ويتفرغ لملذاته تاركاً حماية الرُّها لأهاليها من الأرمن ، والسريان ، والنساطرة ، واليعاقبة ، وكان معظمهم من التجار الذين لا خبرة لهم بشؤون الحرب والقتال ، بينما تولى الجند المرتزقة مهمة الدفاع عن القلعة.
وحينئذٍ اشتد زنكي في التضييق على الحصن مستخدماً الات الحصار الضخمة التي جلبها معه لتدمير أسواره ، دون أن تتاح الفرصة لتجمُّع الصليبيين ، والتقدم لإنقاذ هذا الموقع الخطير ، وأرسل جوسلين لدى سماعه نبأ الهجوم في طلب نجدة مستعجلة من كافة الإمارات الصليبية في الشام ، فلم يستجب له سوى (ميلزاند) الوصية على بيت المقدس ، التي وصلت نجدتها بعد فوات الأوان(عاشور، 1986 ج2 ص605- 606) كما أنه قام بمحاولة للدخول إلى المدينة ، أو إرسال نجدة لتعزيز دفاعها ، فحيل بينه وبين ذلك. وفي السادس والعشرين من جمادى الاخرة 539 هـ وبعد مرور ثمان وعشرين يوماً على بدء الحصار انهارت بعض أجزاء الحصن ، إثر الضرب المركز الشديد الذي تعرضت له ، فاجتاحت قوات المسلمين المدينة(ابن القلانسي، 1983 ص 279 ـ 280 )
3 ـ سياسة عماد الدين زنكي في الرُّها:
رأى عماد الدين زنكي بعد أن فتح الرُّها: أن ذلك البلد لا يجوز في السياسة تخريب مثله ، وأصدر أوامره إلى جنده بإيقاف أعمال القتل والأسر والسلب ، وإعادة ما استولوا عليه من سبي وغنائم ، فأُعيدوا ولم يفقد إلا الشاذ النادر ، وأعقب ذلك بإصدار أمر اخر بالإسراع في تنظيم ما اضطرب من أمور الرُّها ، وتعمير ما تهدم خلال أسابيع طويلة من القتال ، ورتّب من راه أهلاً لتدبير أمرها وحفظها والاجتهاد في مصالحها ، ووعد أهلها بإجمال السيرة وبسط العدالة(ابن القلانسي، 1983 ص 280 ) مستهدفاً من وراء ذلك استمالة سكانها الأصليين من المسيحيين الشرقيين ضد الصليبيين الكاثوليك ، الأمر الذي يؤكده قيامه بتدمير عدد من الكنائس الكاثوليكية ، واحتفاظه بكنائس الشرقيين.
4 ـ العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرُّها:
هناك العديد من العوامل التي ساعدت عماد الدين على تحرير الرُّها ، منها:
ـ تنامي حركة الجهاد الإسلامية حتى عصره ، وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال ، فلا ريب في أن التجارب السابقة أثبتت أن إمارة الرُّها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك ، وقد أجهدها أمر الإغارات المستمرة من جانب أتابكة الموصل على نحو خاص طوال ما يزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثل موتٍ بطيءٍ لها إلى أن تم الإجهاز عليها في العام المذكور.
ـ ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين زنكي العسكرية الذي فاجأ تلك الإمارة الصليبية بالهجوم ، بعد أن اطمأن الصليبيون إليه ، وتصوروا: أنه لن يهاجم ، فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ، ووجه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 122-126
الغامدي، الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي، مسفر دار المطبوعات الحديثة، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.
عبد المنعم حسنين، سلاجقة إيران والعراق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1379ه- 1959 م
عليه عبد السميع الجنزوري، إمارة الرها الصليبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1422ه- 2001م
سعيد عاشور، الحركة الصليبية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1406ه- 1986 م.
ابن الأثير الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382 هـ 1963 م.
ابن القلانسي، تاريخ دمشق، تحقيق: سهيل زكار، دار حسان للطباعة والنشر، دمشق، 1403ه-1983م