مراحل إغراق الأرض بالماء وحدوث الطوفان
د. علي الصلابي
عرض الله عزَّ وجلّ في سورة القمر مشهد التنكيل والتعذيب والطوفان العظيم الذي أصاب قوم نوح، وكيف أن أبواب السماء فتحت، وكأن الماء يصبّ منها صبًّا على خلاف المعهود من نزول المطر، وكيف تحولت الأرض كلّها إلى عيون تتفجّر منها المياه تفجرا عنيفا وقويا، ولك أن تتصّور في ضوء الآيات الكريمة الحدّ الذي بلغته المياه من الارتفاع.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ (القمر: 9- 16).
بدأت الآيات القرآنية تبيّن تكذيب قوم نوح بالرسالة، والآيات في بيان موجز.
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾
أي: فكذبوا عبدنا نوح، وتكذيبه يشمل التكذيب بأنه رسول الله، والتكذيب بما أنبأهم به عن ربه، وأجمل النصُّ الأعمال التي قام بها قومه لمقاومة دعوته بعبارة "وازدجر" أي: منعه كبراء قومه، ونهوه بغلظة وعنف وشدّة عن أن يدعو عامتهم إلى الدين الذي جاء به، وطالبوه بأن يكفّ عنهم، ونهروه بعنف "وازدجر"، بدلًا من أن ينزجروا هم ويرعووا.
عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ، عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه، وما انتهى إليه جهده وعمله، وما انتهت إليه طاقته ووسعه، ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول "فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ".
﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾
انتهت طاقتي، انتهى جهدي، انتهت قوتي، وغلبت على أمري، "أني مغلوب فانتصر" انتصِر أنت يا ربي، انتصر لدعوتك، انتصر لحقك، انتصر لمنهجك، انتصر أنت فالأمر أمرك، والدعوة دعوتك، وقد انتهى دوري. وما تكاد هذه الكلمة تقال، وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة، فتدور دورتها المدوّية المجلجلة.
﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾
عبّرت الآية بعبارة دلّت فيها على أن السماء كانت كخزان عظيم، مملوء بالماء، ولهذا الخزان أبواب، وفتح الله هذه الأبواب، فانهمرت المياه على مقاديرها، منصبّة انصبابًا كأنها شلالات موزّعة توزيعًا منتظمًا على مواقعها في الأرض. بماء منهمر، أي: منصبّ بشدة وتتابع.
﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾
دلّ على حركة تفجير مائيّ من الأرض مناظر لحركة الشلالات المنصبّة من السماء، فالأرض المتحدَّث عنها على امتداد مساحاتها قد فجرها الله عيونًا.
إنَّ التفجير يدل على أشد صور تدفّق الماء وتدافعه من باطن الأرض إلى ما فوقها، والتعميم في إسناد التفجير إلى كل الأرض يوحي أولًا بأن سطح الأرض قد تفجر ماء، ولفظ "عيونًا" الذي جاء تمييزًا قد حدد الصورة التي فجّرت الأرض على وفقها، وهي صورة عيون مائية متفجرة موزّعة على ساحة الأرض كعيون الغربان، والقرآن يرسم روعة الصورة الأدبية "وفجرنا الأرض عيونًا": فجّر الله الأرض تفجيرًا على صورة عيون مائية متدفقة متدافعة منبعثة بقوة.
﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾
أي: فمن دون تراخٍ التقى الماء المنهمر والماء المتفجر، على أمرٍ من أمر الله قد قُضي وقُدّر للتقدير الشامل لكل الدقائق والتفاصيل، قبل الأمر به، وقبل قضائه وإمضائه، وهو إهلاك قوم نوح الذين كفروا به.
ونلاحظ في الآيات السابقة "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر"، حركة كونية ضخمة تصوّرها ألفاظ وعبارات مختارة تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة "ففتحنا"، فيحس القارئ يد الجبار تفتح "أبواب السماء" بهذا اللفظ وبهذا الجمع "بماء منهمر" غزير متوالٍ، وبالقوة ذاتها، والحركة نفسها "وفجرنا الأرض عيونًا" وهو تعبير يرسم مشهد التفجير كأنه ينبثق من الأرض كلها، وكأنما الأرض كلها قد استحالت عيونًا.
والتقى الماء المنهمر من السماء بالماء المتفجر من الأرض، "على أمر قد قدر" التقيا على أمر مقدّر، فهما على اتفاق لتنفيذ هذا الأمر المقدر، طائعان للأمر، محققان للقدر، حتى إذا صار طوفانا يطُم ويعُم، ويغمر وجه الأرض، ويطوي الدنس الذي يغشى هذا الوجه وقد يئس الرسول من تطهيره، وغلب على أمره في علاجه، امتدت اليد القوية الرحيمة إلى الرسول الكريم الذي دعا دعوته، فتحرك لها الكون كله، امتدت له هذه اليد بالنجاة وبالتكريم.
﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾
وظاهر من العبارة تفخيم السفينة وتعظيم أمرها، فهي ذات ألواح ودسر، توصف ولا تذكر لفخامتها وقيمتها.
فهي "ذات ألواح" فهذا يدل على أنها أداة خشبية، وهي "ذات دسر": الدُّسر: جمع دِسار، وهي المسامير التي تثبّت بها الألواح بعضها إلى بعض، وهي أيضًا الخيوط والحبال الليفية التي تشد بها ألواح السفن. إذن: فهي مركبة من ألواح خشبية قد شدّ بعضها إلى بعض بالدسر.
ونلاحظ أن التعبير عن هذه المركبة المائية لم يأت بالاسم الخاص الذي يدل عليها دلالة مباشرة، وإنما جاء يذكر بعض المواد الأساسية التي صنعت منها، وهي الألواح والدسر، وهذا من الإلماح الفني البديع الذي يرضي ذكاء الأديب اللّماح، ويغمر مشاعره، لكن جاء بعد ذلك في سور أخرى لفظ "الفلك" وذلك في الأعراف، والشعراء، ويونس، وهود، والمؤمنون، ثم جاء إيضاح أنها مركبة مائية في قوله تعالى في الفقرة الخامسة.
﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾
إن ذات ألواح ودسر تجري وقد امتلأت الأرض ما لا تجري على اليابسة، إنما تجري على الماء فهي إذن "فلك"، وقد دلَّت هذه الجملة على أنها تجري جريًا محاطًا بالحفظ والعناية من الله ضمن بحر عظيم منهمر من السماء، وبحر متفجر من الأرض، وموج متلاطم كالجبال.
إنَّ أحوج ما تحتاج إليه هذه المركبة أن تكون محاطة بالحفظ والعناية والحماية من الله عز وجل، للنجاة والسلامة حتى بلوغ البر الساكن الآمن، فأيّ تعبير أدلّ على هذا الأمر الذي هو مطلوب راكبيها من قوله تعالى "تجري بأعيننا"؟
فمركبة نوح عليه السلام تجري بأعين الله، وهذا يدل على أنها في غاية الحفظ والرعاية والحماية والمراقبة التامة لكل حركة من حركاتها على مدى اللحظات والآناء.
﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾
يضيف البيان ما يدل على الغاية من هذا الاهتمام الشديد بحفظ سفينة نوح كل هذا الحفظ، وهي مكافأة نوح بثواب معجّل له في الحياة الدنيا جاء كونه كُفر من قبل قومه، فقال عز وجل "تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر".
ونلاحظ أنه لم يأت في النصّ عبارة جزاء نوح، بل جاء فيه وصفُ كونه -كُفر- من قبل قومه، أي: جُحد وكُذّب وازدجر، وهذا جزاء من الله تعالى بالرعاية على الجفاء، وبالتكريم على الاستهزاء، ويصور مدى القوى التي يملك رصيدها من يُغلب في سبيل الله، ومن يبذل طاقته، ثم يعود إليه.. له أمره، وأمر الدعوة، ويدعوه أن ينتصر، إن قوى الكون الهائلة كلها في خدمته وفي نصرته، والله من ورائها بجبروته وقدرته.
﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً﴾
ولقد تركنا فلك نوح باقية زمنًا طويلًا من بعده، لتكون علامة على حادثة الطوفان، وقصة نوح مع قومه تذكر بعقاب الله للمكذبين الظالمين الطغاة، وتكون عبرة لمن يَعتبر، وذكرى لمن يذّكر فقال تعالى في الفقرة الثامنة.
﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾
دلَّ هذا التساؤل البديع على الغرض من ترك سفينة نوح آية شهدتها أجيال متتابعة من بعده، وهو أن تكون للادّكار، أي: للتذكّر الآخذ بيد المتذكر للاتعاظ، إذا كان لديه استعداد للاتعاظ الإرادي، ورغبة فيه مع ما في هذا التساؤل من حضّ على الادّكار والاعتبار بما جرى لقوم نوح، وقد جاء هذا الحض بأسلوب الاستفهام، ومع ما فيه من إشعار بقلّة المدّكرين لأن السؤال يسأل عن واحد مدّكر يعتبر بما جرى للأولين من عقاب رباني.
ويُحمل هذا التعبير على معانيه العديدة التي يدل عليها، فتتكشف لنا وفرة الدلالات أدّاها تساؤل موجز "فهل من مدّكر"؟ وأخيرًا جاء الختام الواعظ المنذر في الفقرة التاسعة من النص، فقال الله عز وجل خطابًا لكل من يصلح للخطاب من معاصري التنزيل وغيرهم.
﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾
أي: فعلى أيّة حال كان عذابي لقوم نوح، وعلى أيّة حال كانت نُذري لقوم نوح؟ لقد كان كما صوّره القرآن، عذابًا مدمّرًا جبارًا شديدًا مخيفًا، يثير الرّعب والاتعاظ والاعتبار، وكل النذر التي أنذر الله بها قوم نوح على لسان رسولهم نذر صادقة حقق الواقع الثابت في التاريخ الذي ظلت آيته باقية حقبًا تشهدها القرون ما جاء فيها بلا نقصان، فما أبدع هذا الإيجاز وما أحكمه وما أغزره دلالات وأوفاه بالمقصود من البيان!