البحث

التفاصيل

مسير الإنسانية والملامح الناشئة والمتلاشية على صفحتها

الرابط المختصر :

مسير الإنسانية والملامح الناشئة والمتلاشية على صفحتها

الأستاذ. شعيب الحسيني الندوي

رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية حراء، منغلور، الهند

        الدنيا دار بلاء وصراع واشتباك دائم بين القوات المتعارضة، و الناس في مسير نحو وجهاتهم دون التفات إلى ما سواها، عادة البشر الميل إلى المألوف والتنكب عن غير المألوف، الرضى بما يوافق نسيج الفكر التراثي والسخط مما يضرب صفحا عن التقاليد الموروثة، الإنسان مجبول على شاكلته التي يستميت لها دون الحيد عنها قيد شبر.

      في هذه الحالة للأمم بالانخراط في سلك تاريخها والإصرار على معتقدات سلفها خير و شر وهما نسبيان لا أصليان فيحكم على الصلاح والفساد لها بعبرة الأصل الذي هو التراث والثقافة.

      والأمة التي لا ترتبط بماضيها ونسيت أو تناست تاريخها ولا تعيش إلا في سرادق حاضرها تندفع إلى كل موجة وتخضع لكل متسلط وتسكت على فظيعة و تتحمل كل ضيم، فالتاريخ قوام الأمم و دعامة بقاء الملل، المجد المؤثل هو الذي يتوارثه الأبناء عن الآباء، والفضل المستطيل هو الذي يتدواله القوم كابرا عن كابر.

      بعد هذه التوطئة آتي إلى النقطة الأولى لمقالتي: إذ بعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب و كانت الدنيا تتسكع في ظلمات وضلالات وتطغى عليها موجة الجهل والجاهلية، أحاطت بالناس النكبات والأزمات، شقيت البشرية حتى في أرقى الحواضر و أعرق المدنيات، وضغثا على إبالة فشا الاضطهاد الديني والطغيان المدني والاستبداد السياسي، أصبحت الأرض غابة الوحوش يأكل القوي فيها الضعيف و تستبد بالحكم أسرة تمتص دماء الشعب وتبتز أموال الكادحين وتستفرغ كل الطاقات لخدمة الطبقة الحاكمة على حساب كل القوم، والدين خسر رسالته التي تغير الأوضاع وتبعث في الأمة الحياة الروحية ويحمل أبناءه على مقاومة التيارات المعادية بالتضحيات والتفاني في سبيله.

النقطة الثانية: أحدث النبي صلى الله عليه وسلم انقلابا غريبا في تاريخ البشر و غير مجرى الحياة، أقام موازين القسط و وضع كل شيئ في محله و أجرى الأمور على نصابها و سوّى بين طبقات البشر تسوية معتدلة رشيدة كأنها أسنان المشط، بنى مجتمعا رشيدا و أسس مدنية صالحة و كوّن كتلة بشرية متزنة لم تر الدنيا أحسن منها، أبرّ الناس قلوبا وأعمقهم علما و أقلهم تكلفا، أخرجوا من أنفسهم حظوظ النفس و صاروا في الدنيا رجال الآخرة.

      لم يكن الإصلاح النبوي مقتصرا على جانب ديني أو خلقي بل كان شاملا سائر نواحي الحياة و جميع مجالات العيش لكل طبقة من طبقات الناس، أوجد الوعي في الأمة و ناط الأمانة بكل مسؤولية و أسس عقيدة القيام أمام رب العالمين، فأصحبت السياسة خدمة و رفاهية، والمدنية رخاء وسعادة، والمالية خيرا للجمهور، والقانون مقسطا عادلا للشعب أجمع، فأجريت الأمور على نصابها، لا ظلم ولا شطط، لا استبداد بالحكم ولا طغيان، لا احتكار على المال ولا تمرد، لا تذمر من الإمارة ولا البغي، لا اعتداء على القانون ولا الطغيان، بل عمّ الأمن و فشا السلام و راج العدل و تقلص الظلم بل انعدم، رأت الدنيا نموذجا من الاجتماع والمدنية لا يخيل فوقه و لا يرجى بعده.

النقطة الثالثة: حدثت ثلمات في الصرح الإسلامي ووقعت انحرافات في الحياة الإسلامية، انقلبت موازين الحكم والسياسة وتغيرت المعايير الإسلامية الثابتة عمليا، نشأ الجيل الذي لم يتربّ على يد النبي صلى الله عليه وسلم واتسع سلطانه ونفذت كلمته في الدولة، لم يتمثل الإسلام تمثيلا صادقا، بل مساويهم نكتت نكتة سوداء على غرة جبين الإسلام، واشتعلت نار الحرب بين طوائف المسلمين ما انهكت قواهم وشغلتهم عن مهام بعثتهم شيئا ما.

      ذلك والتيار الإسلامي العلمي والعملي في الشعب المسلم يفيض فيضانا ويتسع اتساعا، لا خرق في العقائد الإسلامية و لا نقصان في الجهود العلمية و لا نقض للثوابت الدينية و أصحاب العزائم الوشيكة لا يخافون في الله لومة لائم و يمثلون الإسلام تمثيلا وفيا تاما، و كلما لحق جماعة المسلمين خلل في الدين أو تحريف في الإسلام تصدى له رجال قيضهم الله للإصلاح والتجديد، فإذا أنت ترى جور الطغاة الظلمة من الحكام في تاريخ المسلمين ترى الجبال الصماء من الصادعين بكلمة الحق عند السلاطين الجورة كما لا يخلو التاريخ من سلاطين أمناء رحماء كرماء خدموا الإسلام خدمة لا يستهان بها و وسعوا نطاق دائرة الدولة الإسلامية و نشروا الدين في الآفاق، فإنك إن تر الفساق الفجار وأصحاب الأهواء والبدع والضلال في مجتمعات المسلمين، تتراء لك مشاهد تنطق بالعظمة وتتجل أمامك نماذج تشهد بالفضل لأولئك الجهابذة أولي العزم من الرجال الذين أقاموا اعوجاع المجتمع وأصلحوا زيع الجماعة، فتحقق وعد الله لحفظ هذا الدين نقيا من شوائب التحريف ومأمونا من انتحال المبطلين وبقيت طائفة على الحق تغربل معتقدات المجتمع وتقاليده.

النقطة الرابعة: آن الأوان لانتقال سدة الحكم وقيادة البشرية من أيدي المسلمين إلى الأيدي الأثيمة الخرقاء لم تخدم البشرية إلا فسادا، ولم تمنحها إلا تعاسة و شقاء، إن نهضة أوروبا العلمية والتكنولوجية يسرت مرافق الحياة للإنسان و سهلت وسائل النقل والانتقال لكن خسر الإنسان روح الحياة و قيم الاجتماع، فأصبح شبيها بالحيوان الذي لا يهمه إلا الأكل والشرب والرفث، بل صار أضل من الحيوان في نفسيته و طبيعته، عرف كيف يطير في الفضاء مثل الطيور وكيف يخوض تحت البحار مثل الأسماك ولكن لا يدري كيف يعيش على الأرض بأمن وأمان و حب وسلام وعدل واقتصاد.

      النظريات والفلسفات السائدة في أوروبا التي اكتسحت العالم البشري وعمت الدول و تسيطرت على الأفهام والعقول هي في أصلها لا تمت إلى الإنسانية بصلة بل تعمل لترفيه حياة فئة قليلة على حساب جماهير المجتمع و على بلاء كل العالم، إنها تتصل سواء بالسياسة أو الاجتماع، بالعلم أو الفكر، بالاعتقاد أو العمل، بالتقنين أو التثقيف لكنها لا تحسن إلى البشرية إلا مادة وظاهرا وربما بالإجحاف والتنكيل على عامة الشعب المنكوب. أما الروح والباطن فلا مكان للتفكير عنه في تلكم الفلسفة الغربية.

النقطة الخامسة والأخيرة: إيجاد الوعي في الأمة الإسلامية لتبوء زعامة العالم البشري، وذلك لن يتحقق إلا بالرسالة الخالدة التي بعث بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي نيطت بها سعادة البشرية، إذ هي قوام الفضيلة و مناط السعادة و منبع الخير، لأن الدنيا رأت بأم عينها أن شقاء البشرية لم ينته و تعاستها لم ترفع إلا بسلطان هذه الرسالة الحق، ألا وهي بلسان سيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان الى عدل الإسلام."

      المسلمون موئل الإنسانية، لا ببلدانهم أو بثروتهم أو بوجاهتهم ولكن بسبب ما يحملون من أمانة عظمى تجاه البشرية جمعاء.

      فالواجب الأوجب على الدعاة والعاملين في الإصلاح والتربية والتثقيف أن يحيووا الدين النقي من شوائب التحريف في شباب الأمة ويشعلوا جذوة الإيمان في صدورهم ويربطوهم بثوابت الحق ويرسخوا في عقولهم خلود رسالة الإسلام ويثيروا هممهم لنيل معالي الأمور ويستنهضوهم لاجتياز عقبات كؤود ويثقفوهم على الجمع بين القديم الصالح والجديد النافع كي يسايروا الزمان بأصالة شريعة الإسلام ويتأهلوا بكل ما يستلزم لإقامة نظام مستقل حتى ينشأ الجيل المثقف المؤمن الذي يرجى منه أن يجدد بطولات السلف الأمجاد ويقدم للبشرية التعسة المنكوبة حلا صالحا رشيدا ويغير نظام الأرض المشؤوم تغييرا جذريا، وما ذلك على الله بعزيز.


: الأوسمة



التالي
فيلم هندي يحرض ضد المسلمين بدعوى خطفهم هندوسيات لتحويلهن للإسلام!
السابق
مسؤول بريطاني يعلن إسلامه ويؤدي العمرة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع