طواف النبي صلى الله عليه وسلم على القبائل طلباً للنُّصرة: دروس وعبر
دعوة للتأمل في أسوب المفاوضات النبوي الرصين
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطَّائف بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم، يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء، والنُّصرة، حتَّى يبلِّغ كلام الله - عزَّ وجلَّ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرَّك في المواسم التِّجارية، ومواسم الحجِّ الَّتي تجتمع فيها القبائل وَفْق خطَّةٍ سياسيَّةٍ دعويَّةٍ واضحة المعالم، ومحدَّدة الأهداف، وكان يصاحبه أبو بكر الصِّدِّيق؛ الرَّجل الَّذي تخصَّص في معرفة أنساب العرب، وتاريخها، وكانا يقصدان «غُرَر النَّاس، ووجوه القبائل، وكان أبو بكر رضي الله عنه، يسأل وجوه القبائل، ويقول لهم: كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدَّث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ويعرض دعوته».( السَّمعاني، 1962ج 1ص 36).
كانت النُّصرة الَّتي طلبها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات صفةٍ مخصوصةٍ، وذلك على النَّحو التالي:
1 - طلب الرَّسول صلى الله عليه وسلم للنُّصرة من خارج مكَّة إنَّما بدأ ينشط بشكلٍ ملحوظٍ بعد أن اشتدَّ الأذى عليه عَقِبَ وفاة عمِّه أبي طالب؛ الَّذي كان يحميه من قريش، وذلك لأنَّ مَنْ يحمل الدَّعوة، لن يستطيع أن يتحرَّك التَّحرُّك الفعَّال لأجلها، وتوفير الاستجابة لها، في جوٍّ من العنف، والضَّغط، والإرهاب.
2 - كان عرض الرَّسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل يطلب منهم النُّصرة، إنَّما هو بأمرٍ من الله - عزَّ وجلَّ - له في ذلك، وليس مجرَّد اجتهادٍ مِنْ قِبَلِ نفسه، اقتضته الظُّروف؛ الَّتي وصلت إليها الدَّعوة في مكَّة.
3 - حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب النُّصرة في زعماء القبائل، وذوي الشَّرف، والمكانة ممَّن لهم أتباعٌ يسمعون لهم، ويُطيعون؛ لأنَّ هؤلاء هم القادرون على توفير الحماية للدَّعوة، وصاحبها.
4 - يلاحظ في سيرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، بخصوص طلب النُّصرة: أنَّه كان يطلبها لأمرين اثنين:
أ - كان يطلبُ النُّصرة من أجل حماية تبليغ الدَّعوة؛ حتَّى تسير بين الناس محميَّة الجانب، بعيدةً عن الإساءة إليها، وإلى أتباعها.
ب - كان يطلب النُّصرة، من أجل أن يتسلَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مقاليد الحكم، والسُّلطان على أساس تلك الدَّعوة، وهذا ترتيبٌ طبيعيٌّ للأمور.
5 - رفض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يعطي القوى المستعدة لتقديم نُصرتها أيَّة ضماناتٍ، بأن يكون لأشخاصهم شيءٌ من الحكم، والسُّلطان على سبيل الثَّمن، أو المكافأة لما يقدِّمونه من نُصرةٍ، وتأييدٍ للدَّعوة الإسلاميَّة؛ وذلك لأنَّ الدَّعوة الإسلاميَّة إنَّما هي دعوةٌ إلى الله، فالشَّرط الأساسيُّ فيمن يؤمن بها، ويستعدُّ لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه هما الغاية الَّتي يسعى إليها من النُّصرة والتَّضحية، وليس طمعاً في نفوذٍ، أو رغبةٍ في سلطانٍ، وذلك لأنَّ الغاية التي يضعها الإنسان للشَّيء هي الَّتي تكيِّف نشاط الإنسان في السَّعي إليه، فلابدَّ - إذاً - أن تتجرَّد الغاية المستهدفة من وراء نُصرة الدَّعوة عن أيِّ مصلحةٍ مادِّيَّةٍ لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أيِّ انحرافٍ، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدَّعم لها، وتقديم التَّضحيات في سبيلها،(هيكل، 1993 ج 1 ص411). فيجب على كلِّ من يريد أن يلتزم بالجماعة؛ الَّتي تدعو إلى الله ألا يشترط عليها منصباً، أو عرضاً من أعراض الدُّنيا؛ لأنَّ هذه الدَّعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء، والدَّاخل في أمر الدَّعوة إنَّما يريد ابتداءً وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أمَّا إذا كان المنصب هو هَمَّه الشَّاغل؛ فهذه علامةٌ خطيرةٌ، تنبئ عن دَخَنٍ في نيَّة صاحبها،(البلالي ،1991، ص 72.) لذا قال يحيى بن معاذ الرَّازي: «لا يفلح مَنْ شَمَمْتَ منه رائحة الرِّياسة».
6 - ومن صفة النُّصرة؛ الَّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النُّصرة غير مرتبطين بمعاهداتٍ تتناقض مع الدَّعوة، ولا يستطيعون التحرُّر منها؛ وذلك لأنَّ احتضانهم للدَّعوة - والحالة هذه - يُعرِّضها لخطر القضاء عليها، مِنْ قِبَلِ الدُّول الَّتي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والَّتي تجد في الدَّعوة الإسلاميَّة خطراً عليها، وتهديداً لمصالحها.
إنَّ الحماية المشروطة، أو الجزئية لا تحقِّق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حرباً ضدَّ كسرى؛ لو أراد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليمه، ولن يخوضوا حرباً ضدَّ كسرى؛ لو أراد مهاجمة محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات.(الغضبان ، 1988، ص 53.)
7 - «إنَّ دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه»، كان هذا الردُّ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على المثنَّى بن حارثة حين عرض على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السِّياسة البعيدة؛ يَرَ بُعْدَ النَّظر الإسلاميِّ النَّبويِّ الَّذي لا يُسامى.
8 - كان موقف بني شيبان يتَّسم بالأَرْيَحِيَّةِ، والخلق، والرُّجولة، وينمُّ عن تعظيم هذا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية الَّتي يملكونها، وقد بيَّنوا: أنَّ أمر الدَّعوة ممَّا تكرهه الملوك، وقدَّر الله لشيبانَ بعد عشر سنين، أو تزيد، أن تحمل هي ابتداءً عبء مواجهة الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنَّى بن حارثة الشَّيبانيُّ صاحب حربهم، وبطلهم المغوار، الَّذي قاد الفتوح في أرض العراق، في خلافة الصِّدِّيق رضي الله عنه،( الغضبان، 1998، ج2 ص20). فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس، ولا يفكِّرون في قتالهم؛ بل إنَّهم ردُّوا دعوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد اقتناعهم بها؛ لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الَّذي لم يكونوا يفكِّرون فيه أبداً، وبهذا نعلم عظمة هذا الدِّين؛ الَّذي رفع الله به المسلمين في الدُّنيا؛ حيث جعلهم سادة الأرض، مع ما ينتظرون في أخرآه م من النَّعيم الدَّائم، في جنَّات النَّعيم.(الحميديِّ، 1997، ج 3 ص69).
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار ابن كثير، بيروت 1425ه،2004م،ص372-375
أبو سعيد عبد الكريم بن محمد السَّمعاني، الأنساب، تحقيق عبد الرَّحمن المعلمي اليمانيِّ، نشر مجلس دائرة المعارف - الهند. 1382 هـ - 1962 م.
محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السِّياسة الشَّرعية الطَّبعة الأولى، ، دار البيارق - عمَّان - بيروت. 1414هـ- 1993م
عبد الحميد البلالي، وقفاتٌ تربويَّةٌ من السِّيرة النَّبويَّة، الطَّبعة الثَّالثة، ، المنار، الكويت. 1411 هـ - 1991 م
محمَّد الغضبان، التَّحالف السِّياسيُّ في الإسلام لمنير دار السَّلام، الطبعة الثانية، 1408 هـ 1988 م.
منير الغضبان، التَّربية القياديَّة دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.
عبد العزيز الحميديُّ، التَّاريخ الإسلاميُّ - مواقف وعبرٌ، دار الدَّعوة - الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ- 1997 م.