الألواح هي الحل
أ.د جمال عبد الستار
في الوقت الذي تصل فيها الحركة الإسلامية بطولها وعرضها إلى ذلك المستوى المتأزم، من الضعف والتفرق والتشرذم، يتساءل الناس: هل من سبيل إلى الإصلاح؟ ويسارعون إلى محاولة رأب صدع البناء، فهل يمكن للبناء أن يصمد أمام عواصف الرياح؟ وهل المشكلة في وجود البناء أم في تحقق مهمة البناء؟ وهل البناء في ذاته يحسب من الأهداف أم من الوسائل؟
ونظرة تدبر في القرآن تعطيك الدواء صافياً، وترسم لك طريق السلامة مستقيماً، فهذا نبي الله موسى يغضب غضباً مشروعاً، يغضب لمخالفة قومه لمنهجه، وانحرافهم عن صحيح العقيدة، ويغضب من أخيه هارون لأنه لم يستطع منعهم من السقوط في بئر الضلال.
ولكن هذا الغضب حمله على أن يفعل شيئاً عظيماً، حمله الغضب على إلقاء الأ لواح، وسجلها القرآن ليدلنا على بيت الداء: "وألقى الألواح".
والألواح هي المرجعية الربانية، والألواح هي حمل الرسالة وإقامة الدين، هي التربية الإيمانية العميقة، هي الاستمساك بحبل الله، هي منبع الهداية ومصدر الرحمة والعزة، هي موطن الشفاء.. الألواح تتمثل في العلماء الربانيين، والدعاة الصادقين، الألواح تتمثل في تعظيم المرجعية الشرعية اعتقاداً، وفهماً، وسلوكاً، وحركة.
الألواح هي مرجعية القرآن والسنّة وتطبيقاتها على أنفسنا قبل أن نسعى لتطبيقها على الناس، فمن لم يقبل المحاسبة لن ينجح في التمكين، ومن يتعالى على التقويم سيتحول حتماً إلى شيطان رجيم.
فلما ألقى الألواح أصبح يتعامل مع أخيه منطلقاً من وجهات النظر، فأضحى يتناقش مع أخيه على مرجعية الاتفاقات واللوائح والقوانين التنظيمية، وليس على أرضية الإخوة الإيمانية، فالألواح ملقاة، ومرجعيتها معطلة حالة الغضب!!! فأوصله هذا الطريق إلى سلوك غير معهود في حياة الأنبياء، حيث تنازع مع أخيه حتى جذبه من رأسه ولحيته يجره إليه.
وخلد القران هذا المشهد للاعتبار: "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْه".
وهنا جاء دور الأخ الناصح (هارون عليه السلام) الذي ربما لم يظهر في كثير من المناسبات العامة، ولا يكثر الكلام، ولكنه وقت الأزمات يتدخل ليضبط البوصلة: ينادي في أخيه رابطة الأخوة والرحمة (يابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِ..). ويشرح وجهة نظره وسعيه في المحافظة على وحدتهم، فإنهم مع الوحدة يمكن علاج خللهم العقدي، أما لو افترقوا وتنازعوا فلا مجال لإصلاح عقدي أو فكري، بل سيستعصي الداء على الدواء.
ثم بين له عاقبة هذا التنازع ولخصه في خطرين:
الخطر الأول: شماتة الأعداء (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ)، وهو ما حذرنا القران منه بوضوح لا خفاء فيه: "وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ".
الخطر الثاني: أن تجعل من أخيك ظالماً، لأن التنازع سيدفع أخاك إلى أمرين: إما أن يتعدى عليك فيظلمك، أو أن يتماهى مع أعدائك فيتحول إلى صفهم فيكون مع الظالمين.
قرارات التصحيح
اتخذ موسى عليه السلام خطوتين للتصحيح:
الأولى: أنه لم يُطل التدقيق في البحث عمن هو المخطئ ومن المصيب، ولكنه تعالى على الخلاف، وأعلنها منهجية تغافر لا تفاضح وتراحم لا تقاطع: "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين" (الأعراف: 151).
الثاني: عاد إلى الألواح: "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ" (الأعراف: 154)، فلا توفيق ولا هداية ولا رحمة بعيداً عن الألواح.
وهنا أقول: إن الحركة الإسلامية تخلت عن الألواح بالتدرج، حتى انحرف سيرها، وفقدت ثروتها، وأضاعت مصدر عزها وقوتها.
نعم تركت الألواح يوم أن غاب العلماء عن قيادتها، وحتماً ستسقط كل دعوة لم تجعل عليها من أهل العلم في شتى المجالات نجوماً يضيئون ليلها، وهداة يرشدون سيرها، ورواداً يستشرفون مستقبلها.
وحتما ستسقط كل المنهجيات التي لم تتخذ من آيات الأحكام وسنة خير الأنام قوانين حاكمة لمنهجها، وضوابط حارسة لمسلكها، ومرجعية ضابطة لحركتها.
- تركتها يوم أن اتخذت في عظائم الأمور رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا.
- تركت الحركة الإسلامية الألواح منذ أن تحول العمل السياسي بكل ضجيجه من وسيلة للدعوة إلى غاية، وأضحت الدعوة وسيلة للعمل السياسي، بدليل أنه حينما تعارض الأمران تُركت الدعوة، ولما خسرت السياسة تراجعت الدعوة. والدعوة ليست هي مجرد أنشطة رتيبة، ولكنها ميراث النبوة وأمانة حمل الرسالة.
- تركت الألواح يوم أن تخلصت الحركة من النابهين سياسياً، والسابقين فكرياً، والمتمرسين إدارياً، والمؤثرين إعلامياً، والناشطين حقوقياً.. الخ.
- تركت الألواح يوم أن غابت فيها الرابطة الإيمانية وحضرت الرابطة التنظيمية، فإن اختلف الأخ مع إخوانه في أمر إداري أو تنظيمي حولوه إلى شيطان رجيم، وكأنه كفر بالله العظيم!!
- تركت الألواح يوم أن تقاعس الأخ عن الأخذ على يد أخيه الظالم، وتراجعت عن إنكار المنكر في داخلها، مع انها كانت كثيراً ماتدرس لأتباعها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض.." (رواه أبو داود والترمذي).
- غابت الألواح يوم أن صار التحكم للوائح والتمسك بها أعظم من التحاكم للألواح والاعتصام بها.
ومن هنا فأي محاولة للإصلاح لا قيمة لها، إلا إذا عادت الألواح همّاً وفكراً وتلاوةً خططاً ومنهجييةً ومرجعيةً وتعاملاً وأهدافاً.
لا يقبل الناس أن يُسندوا لشركة ما إنشاء مدينة سكنية حديثة وهم يعلمون أنها بدون مهندسين أكفاء، ولا يتوقعون نجاح مؤسسة طبية دون أن يتوفر لها المهرة من الأطباء، في الوقت الذي يتطلعون فيه إلى إقامة مشروع إسلامي بمنظومة لا مكان فيها للعلماء، ولا مقام فيها للفقهاء، ولا رأي فيها للدعاة!!
وأخيراً، فإن أي بناء تنظيمي، أو نجاح سياسي، أو حتى غلبة عسكرية أو نهضة اقتصادية.. أو غيرها من صور التمكين، لا قيمة لها عند الله ما لم يسبقها القيام بواجب البلاغ المبين، فقد بين الله لرسوله قانون القرآن في البلاغ فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" (المائدة: 67).
فالبيعة مع الله تسبق البيعة مع الناس، والصدق مع الله يسبق الصدق مع الناس، وتصحيح المسار قبل إصلاح أدوات السير ووسائله. فعودوا إلى الألواح فهي الأرض الوحيدة الصلبة، والثابت الوحيد الراسخ، والباب الأوحد لتحقيق وأجب البلاغ وإرضاء رب الأرض والسماء.
أما الإصلاحات الفكرية والمنهجية والتنظيمية، ففي المقال القادم بإذن الله تفاصيلها.