تأملات بمعاني الروح والنفس في القرآن الكريم
د. علي الصلابي
إن الروح من المخلوقات العظيمة التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وقد كرم الله الروح وأثنى عليها في القرآن الكريم في عدة مواضع، ووظائفها رفيعة، أما النفس فغالب اتصالها بالبدن.
تأتي كلمة الروح في القرآن على عدة أوجه:
المعنى الأول: القرآن، كقوله تعالى ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم *﴾ [الشورى: 52].
المعنى الثاني: الوحي، كقوله تعالى ﴿رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح﴾ [غافر: 15].
المعنى الثالث: جبريل، كقوله تعالى ﴿فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا *﴾ [مريم: 17]، و﴿نزل به الروح الأمين *﴾ [الشعراء: 193].
المعنى الرابع: القوة والثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من شاء من عباده المؤمنين، كما قال تعالى ﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه﴾ [المجادلة: 22].
المعنى الخامس: المسيح ابن مريم، قال تعالى ﴿يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله﴾ [النساء: 171].
المعنى السادس: حياة الإنسان، كقوله تعالى ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا*﴾ [الإسراء: 85] (الروح لابن القيم ص، 241)، فهي الجزء الذي به تحصل الحياة والتحرك واستجلاب المنافع واستدفاع المضار (مفردات ألفاظ القرآن للراغب ص، 369)، وهذا هو المعنى المقصود في كتابنا هذا.
فالروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم.
هل الروح قديمة أم مخلوقة؟
الروح مخلوقة مبتدعة باتفاق العلماء وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع أو من أعلمهم.
والأدلة من الكتاب والسنة الدالة على خلقها كثيرة، مثل قوله تعالى ﴿الله خالق كل شيء﴾ [الرعد: 16]، فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ومن ذلك قوله تعالى ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا *﴾ [الإنسان: 1]، وقوله جل وعلا لزكريا ﴿وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا *﴾ [مريم: 9]، فالإنسان عبارة عن البدن والروح معا، بل الروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح.
وقد جاء في الكثير من النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأرواح تقبض، وتوضع في كفن وحنوط تأتي بهما الملائكة، ويصعد بهما، وتنعم، وتعذب، وتمسك بالنوم، وترسل، وكل هذا شأن المخلوق المحدث (القيامة الصغرى، الدكتور عمر الأشقر، ص 95).
ولو لم تكن الروح مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبية، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد وهم في عالم الذر: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وذلك ما قرره الحق في قوله تعالى ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى﴾ [الأعراف: 172]، وما دام هو ربهم فإنهم مربوبون مخلوقون.
والرد على من زعم أن الروح غير مخلوقة وأنها جزء من ذات الله تعالى كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب فالمراد بقوله ﴿قل الروح من أمر ربي﴾ [الإسراء: 85]، أي أنها تكونت بأمره، أو لأنها بكلمته كانت، و(الأمر) في القرآن يذكر، ويراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى، وهو (المأمور به) كقوله تعالى ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه﴾ [النحل: 1]، أي المأمور به.
ويمكن أن يقال أيضا: إن لفظة "من" في قوله لابتداء ﴿من أمر ربي﴾، وليس نصا في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه، بل هي لابتداء الغاية، إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا مثل قوله: أي من أمره كان ﴿وروح منه﴾، وكقوله تعالى ﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه﴾ [الجاثية: 13]، ونظير هذا أيضا قوله تعالى ﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾ [النحل: 53]، أي منه صدرت ولم تكن بعض ذاته.
أما قوله تعالى في آدم عليه السلام ﴿ونفخت فيه من روحي﴾ [الحجر: 29]، وقوله في مريم ﴿فنفخنا فيها من روحنا﴾ [الأنبياء: 91] فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان:
النوع الأول: صفات لا تقوم إلا به، كالعلم والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذلك وجهه ويده سبحانه.
النوع الثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت، والناقة، والعبد، والرسول، والروح كقوله تعالى ﴿ناقة الله وسقياها *﴾ [الشمس: 13]، وكقوله ﴿تبارك الذي نزل الفرقان على عبده﴾ [الفرقان: 1]، وقوله ﴿وطهر بيتي للطائفين﴾ [الحج: 26]، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصا وتشريفا يتميز بها المضاف إلى غيره (القيامة الصغرى، الدكتور عمر الأشقر، ص 95).
هل النفس هي الروح؟
إن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، أما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها، وتطلق على الدم، ففي الحديث "ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه"، والنفس: الذات ﴿فسلموا على أنفسكم﴾ [النور: 61] ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ [النساء: 29] ونحو ذلك.
أما الروح فلا تطلق على البدن، لا بانفراده ولا مع النفس، وتطلق على القرآن ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ [الشورى: 52] وعلى جبريل ﴿نزل به الروح الأمين*﴾ [الشعراء: 193]، وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضا، أما ما يؤيد الله به أولياءه فهي روح أخرى، كما قال تعالى ﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه﴾ [المجادلة: 22].
وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو قوة المعرفة بالله، والإنابة إليه، ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، وللصدق روح، والناس متفاوتون في هذه الروح، فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها فيصير أرضيا بهيميا (المنحة الإلهية في تهذيب الطحاوية، عبد الآخر الغنيمي، ص 235).