منع أو تقييد تعدد الزوجات بالقانون!!
الشيخ. عصام تليمة
ناقشنا في مقالنا السابق مسألة تعدد الزوجات من حيث حكمها في الشرع، وبينا أن الشرع لم يضع حكما واحدا ثابتا له، وهو حكم يتعلق بالزواج بوجه عام، سواء كانت أولى، أم ثانية إلى الرابعة، فقد يكون واجبا، أو حراما، أو مباحا، أو مكروها، أو مندوبا، حسب حالة الشخص، فهو له حكم عام حيث رغب فيه الشرع بالأساس، لكن حكم القائم بالزواج نفسه، كل له حكم يتعلق بقدرته وإمكاناته، واحتياجه للزواج أم لا، وأن الأصل في الزواج واحدة، وليس التعدد كما ينقل البعض، والنقاش حول التعدد يفتح نقاشا آخر، وهو: هل للقانون أو الحاكم منع أو تقييد تعدد الزوجات، بحيث يضع له قيودا وشروطا، لا يقدم على الفعل إلا من تتوافر فيه؟!
إن محاولات منع تعدد الزوجات أو تقييده في بلادنا العربية والإسلامية مر بعدة مراحل، وعدة محاولات معا، فقد بدأ في البداية بفكرة كتبها الإمام محمد عبده في تفسير المنار، عند تعرضه لتفسير آيتي سورة النساء، قوله تعالى: (فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) النساء: 3، وقد بين عبده مفاسد التعدد التي رآها في مجتمعه آنذاك، وسوء استخدام عدد من رجال زمنه له، وما يكتنف التعدد من مفاسد ومضار. انظر: تفسير المنار (4/287،286).
ولم يكن موقفه التحريم أو المنع، بل كان موقفه أنه لم ير في التعدد الذي مارسه المسلمون الأوائل أي مفاسد، وأن التعدد الذي شاهد آثاره بنفسه فيه مضار تتعدى الأسرة إلى المجتمع، ويرى وجوب تشريع يحول دون الأضرار التي يسببها التعدد بهذا التطبيق. انظر: المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي ص: 87.
وقد دار نقاش في النصف الأول من القرن العشرين حول منع وتحريم التعدد، بدأه عبد العزيز فهمي باشا بمقال نشره في مجلة الرسالة، انتهى فيه إلى منع تعدد الزوجات، بل دعا لسن قانون يمنعه، وقد كتب يرد عليه في سلسلة مقالات: الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي، بعنوان: هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟ وانتهى إلى أننا لا نملك ذلك، وكتب الشيخ عبد المتعال الصعيدي يؤيد رأي عبد العزيز فهمي، في مقال نشره في مجلة الرسالة أيضا، بعنوان: نعم نملك تحريم تعدد الزوجات.
أما عن منع التعدد فليس من سلطة أحد كائنا من كان، سواء كان حاكما أو فقيها، لأنه لا يملك أحد سلطة تشريع تمنع تشريعا نص الشرع على حله، فضلا ع ن انتقال حالته إلى حالات أخرى غير الإباحة إلى الوجوب.كما أن مثل هذه القوانين التي تخالف طبائع الناس، ولو في أمور استثنائية وطارئة، يحتال عليها الناس، فكل ممنوع مرغوب، فهل منع التعدد في بلاد عربية، منعه مطلقا، أم تحول من زوج معلن، إلى زواج سري؟! وكم رأينا من محاولات تحايل على مثل هذه القوانين التي تمنع ما شرع للناس.
فحين منع التعدد في تونس، ذكر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق في فتاويه، أن شخصا تزوج بثانية، ولما وشى به البعض وأبلغ عنه، سئل: هل هذه زوجتك؟ قال: لا، وقصد بذلك أنه لم يتزوجها رسميا، سألوه: ألم تستأجر لها شقة، وضبطناك فيها معها في غرفة النوم؟ قال: نعم، فقالوا: من تكون إذن؟ فقال: عشيقتي، فتم إخلاء سبيله باعتباره غير آثم ولا مذنب، وتركوه ينصرف، ولو كان أقر بأنه زوج لهذه المرأة لزج به في السجن. انظر: فتاوى عبد الحليم محمود (2/156).
أما تقييد التعدد، فقد اختلف فيه العلماء المعاصرون، بين من يرى أحقية ولي الأمر والقانون في يذلك، بناء على أن التعدد من المباح، ولولي الأمر تقييده، وقد ذهب إلى ذلك بعض العلماء المعاصرين، ورفضه آخرون.
ما دام الزواج بالواحدة أفضل؛ حتى مع القدرة، وإمكان العدالة؛ كان هو الأصل والتعدد استثناء، ومن المعروف أن الاستثناء لا يتوسع فيه،
فالتطبيق السيئ للتعدد دفع بعضا من العلماء إلى الذهاب لجواز تقييده، لا منعه، لأن المنع أو التجريم أو التحريم لأمر شرعي، هو سلطة تشريعية ليست لأحد سوى مصدر التشريع: القرآن والسنة، أما تقييد المباح، فهو أمر موضع نقاش لدى الفقهاء، وفيه سعة وتفاصيل كثيرة، وهو ما استند إليه من أجاز التقييد، فمن الموافقين على تقييده: الشيخ محمد محمد المدني الذي يرى أن الشريعة لا تمنع من أن يعهد بظروف الناس في هذا إلى هيئة رسمية أو قضائية وأن يقيد الناس في التعدد بحكم هذه الهيئة (جوازا أو منعا) انظر: المجتمع الإنساني كما تنظمه سورة النساء ص: 230.
ويقول د. محمد سلام مدكور: (وما دام الزواج بالواحدة أفضل؛ حتى مع القدرة، وإمكان العدالة؛ كان هو الأصل والتعدد استثناء، ومن المعروف أن الاستثناء لا يتوسع فيه، وإنما يتقدر بقدره، وعلى هذا فإذا توسع الناس وخرجوا على أصل القاعدة، بل أقدموا على التعدد مع عدم القدرة على مؤونة الزواج ومتطلبات الحياة والتيقن من عدم إمكانية العدالة، بل ومع التيقن من الجور والإجحاف والمضارة صح لولاة الأمر أن يرعوا تلك الحدود فيقيدوا التعدد بما تكون له من مبررات مشروعة مع توافر القدرة من كل النواحي). أحكام الأسرة في الإسلام الجزء الأول ص: 184.
والحقيقة أن مثل هذا التقييد أو المنع لا يستند إلى دليل صحيح، ولا قاعدة معتبرة، وما يستشهد به البعض بجواز تقييد ولي الأمر للمباح، فمن قال: إن التعدد دائما مباح؟! إننا ذكرنا أنه تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، حسب حالة الشخص، وإذا جاز لنا أن نقيس ضابط العدل المادي، من حيث قدرة الزوج على الإنفاق، فكيف سنقيس قدرته الجنسية، والتي قد تجعل من حالته في الحكم أنه واجب.
والأولى والأفضل هنا: أن يفتح باب سماع شكوى الزوجة سواء الأولى أو الثانية أو غيرها، إذا تم عدم العدل المادي، أو العدل من حيث حقها في المعاشرة الجنسية، وهذا باب مفتوح بالأصل، وهو باب الذهاب للقضاء عند إهمال الزوج زوجه، أو التقصير معها في حقوقها، وهناك الطلاق للضرر، عندما تثبت المرأة ما يلحقها من ضرر، فهو باب موجود، وليس من الصواب ـ في وجهة نظرنا ـ فتح باب تقييد حريات الناس الفردية، والسماح للحكام والأنظمة بمصادرته، لأنه كلما فتح هذا الباب أساءت السلطة استخدامه وهو ما جربه الناس طوال تاريخ السلطات المستبدة.
وإذا انجرف أحد وراء هذا المطلب، ودافع عنه، وأعطى السلطة تقييده، أو منعه، فلن يجرؤ أن يتكلم في باب حرياته الفردية هو الآخر، إذا تدخلت السلطات في منعه، فالتواصل الاجتماعي، والحديث عليها بحرية، هو حق فردي، ولو تدخلت السلطة هنا لتقييده، فما الفرق بين حقك الفردي في التواصل، والتعبير، وبين حقك في الحياة الخاصة من زواج أو طلاق؟
فمثل هذه الأمور، تعالج بتربية الناس على العدل، وإعطاء كل ذي حق حقه، وضبط مثل هذه المعاملات بما يحفظ حقوق الناس الفردية، فليس معنى وجود مظالم تكتنف أمرا أحله الله أن نمنعه، أو نقيده تقييدا يخرج به عن حكمه الشرعي، فمن أراد أن يضع ضوابط فلا بد أن تؤدي هذه الضوابط إلى وجود الحكم الشرعي مع ضمان تنفيذه بما يوافق الشرع، وقد وضع الشرع نفسه ضوابط تكفي لضمان تنفيذه تنفيذا صحيحا.