حكم بيع أو هبة الوقف
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي
من الثابت أن كل أرض فلسطين من رأس الناقورة شمالاً حتى أم الرشراش (إيلات) جنوباً هي وقف إسلامي صحيح إما أوقاف عامة أو أوقاف ذرية أو أوقاف تخصيصات ، وذلك من أول وقف في الإسلام أوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وقف الصحابي الجليل سيدنا تميم بن أوس الداري رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين ، والذي كان بشرى منه صلى الله عليه وسلم بفتح أرض فلسطين ، وقد اقتدى قادة الفتح الإسلامي والخلفاء والعلماء والصالحين وكل من أراد التقرب إلى الله بصدقة جارية اقتدوا به صلى الله عليه وسلم فكانوا يشترون من هذه الأرض المباركة ويوقفونها في سبيل الله ، إذن فهي أمانة عظيمة في أعناق أبناء الأمة إلى يوم القيامة ، ولهذا كانت هذه الأرض كلما خضعت لاحتلال أو اغتصاب أو غزو هبت الأمة لتحريرها .
ويشهد على أن أرض فلسطين أرض وقف إسلامي صحيح الأرشيف العثماني في أنقرة ، وتشهد عليه كذلك سجلات المحاكم الشرعية وبالأخص محكمة القدس الشرعية ، وإن كل أحكام الوقف التي ذكرتُها في كافة الحلقات السابقة والتي سأذكرها لاحقاً تنطبق على كل أرض فلسطين ومن أبرزها ما ورد في هذه الحلقة من أحكام تتعلق بتحريم بيعها أو هبتها
وبناء على كل ما ذكرتُ فإن التصرفات التي تسرب هذه الأرض أو أجزاء منها لغير المسلمين غير جائزة شرعاً وقانوناً ، وبالنتيجة فإن قيام بعض ضعاف النفوس ببيع الأوقاف للجماعات اليهودية أو لسلطات الاحتلال أو لغير المسلمين هو بيع باطل بطلاناً مطلقاً لا ينشئ التزاماً ولا يرتب أية حقوق أو آثار قانونية ، ونؤكد أن من يبيعها أو يتنازل عنها خارج عن الصف الوطني ومخالف للأحكام الشرعية . وكل من يقوم بذلك سيلحق به الخزي والعار في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة ، وهذا الحكم ينطبق أيضاً على كل من يقوم بالسمسرة أو التوسط أو التسهيل في بيعها : فهو خائن لله ولرسوله وللمسلمين أولاً ، وثانياً هو خائن للقضية الفلسطينية التي هي القضية المركزية للأمة الإسلامية كلها .
فبما أن الوقف صحيح لازم فمن أبرز أحكامه أنه لا يمكن تمليكه ولا يصح بيعه أو نقل ملكيته بأي سبب من الأسباب الناقلة للملك ، ولا يصح رهنه أيضاً ، وذلك لاستحالة تمليك الخارج عن الملك ؛ حيث إن ملكية الأراضي الموقوفة خرجت عن ملك الواقف وحُبِسَتْ على الجهة الموقوف عليها إلى أبد الآبدين ، وهي ليست ملكاً للجهة الموقوف عليها كذلك . فالخلاصة أنه ليس لأحد نزع هذا الوقف ولا التصرف فيه تصرف المالكين .
ومن أوضح الأدلة على حرمة بيع الوقف وهبته ما روي أن { عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يتصدق بنخل له ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يوقفه فقال له : تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ } رواه البخاري ، وفي رواية أخرى { لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ } رواه مسلم . ومعنى لا يُبْتاع أي لا يُشْتَرى ، وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع رضي الله عنهم { حَبِيسٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } رواه الدارقطني ، ومعنى حبيس أي وقف .
ووجه الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم " لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث " أن حكم التصرف في الوقف عدم جواز نقل الملك فيه ولا التصرف الذي يسبب نقل الملك ، بل يظل باقياً لازماً يعمل به حسب شرط الواقف ، ووجه قوله صلى الله عليه وسلم " لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ " عدم صحة بيع الوقف ولا شرائه ، فكذلك شِرَاءُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ باتفاق العلماء كبطلان بيعه .
ومن أقوى الأدلة على حرمة بيع الوقف أيضاً رواية أبي وائل الذي قال { جلستُ إلى شيبة في هذا المسجد ( أي بيت الله الحرام) قال : جلس إليَّ عمر في مجلسك هذا فقال : لقد هممتُ أن لا أدع فيها (أي في الكعبة) صفراء ولا بيضاء (أي ذهباً ولا فضة) إلا قسمتُها بين المسلمين . قلتُ ما أنت بفاعل . قال لِمَ ؟ قلت لم يفعله صاحباك ، قال هما المرءان يُقْتَدى بهما } رواه البخاري ، وفي رواية أخرى قال عمر { ما الرَّجُلانِ الكامِلانِ لا أخرُجُ عن فِعلِهما، بلْ أَقتَدي بهِما } رواه ابن ماجه ، وشيبة حاجب الكعبة المشرفة وخادمها وهو ابن عثمان بن طلحة رضي الله عنه .
ووجه الاستدلال بهذا الحديث : استدل شيبة بترك النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنهما التعرض لمال الكعبة مع علمهما به وحاجتهما إليه على أنه لا يجوز بيع الوقف ولا التعرض له ، ووافقه عمر رضي الله عنه على هذا الاستدلال وعلى الاقتداء بهما بعدم التعرض لمال الكعبة مع الحاجة إليه .
إذن فالمسوغ الوحيد لجواز بيع الوقف هو بهدف الاستبدال فقط ، وقد بينتُ في مقال استبدال الوقف قبل أسابيع المسوغات الشرعية والقانونية لاستبدال الوقف ، فإذا وجد مسوغ شرعي للبيع كأن يشترط الواقف لنفسه أو لغيره الاستبدال فيجوز لكل منهما أن يبيعه ويشتري بثمنه ما يكون وقفاً بدله ، وغير ذلك لا يجوز بأي حال .
يرى الشافعية والمالكية والظاهرية عدم صحة بيع الوقف بحال ، وكذلك لا يصح تغيير صفته ولا بيع شيء من نقضه . ومَنَ هَدَمَهُ فعليه إعادته كهيئته قبل الهدم ،
والرأي الراجح عند الحنفية وهو المعمول به والنافذ في المحاكم الشرعية والمفتى به بعدم جواز البيع لأن العقار بوقفه أصبح لازماً لا يصح الرجوع عن وقفه ولا بيعه أو توريثه أو هبته استناداً إلى الخبر الصحيح في ذلك .
أما الأثاث والأدوات الموقوفة للمسجد كالحصير والبسط والجذوع فأجاز الحنبلية والشافعية في المعتمد من مذهبهم بيعه إذا بلي أو تكسر فأصبح لا يصلح إلاَّ للحرق ؛ حتى لا يضيع أو يضيق به المكان في غير فائدة ، فتحصيل ثمنٍ مهما كان يسيراً يعود على الوقف خيرٌ من ضياعه كلياً ، ولا تدخل بذلك تحت بيع الوقف لأنها صارت في حكم المعدوم ، وأجازوا كذلك صرف ثمنها في مصالح المسجد ، والقياس أن يُشْتَرَى بثمنِ الحصير حصيرٌ لا غيرَه إنْ أمكن وهو الظاهر من مذهب المالكية . وأجاز الحنبلية أن يتصدق منه على الفقراء من جيران المسجد وغيرهم .
ويرى الحنبلية أيضاً عدم صحة بيع الوقف ولا هبته ولا إبداله ولو بخير منه ؛ إلاَّ أن تتعطل منافعه المقصودة منه كخرابه أو إتلافه بحيث لا يرد من غلته شيء على أهله يعد نفعاً بالقياس إلى أصله ، أو إذا تعذرت عمارته وعودة نفعه .
وكذلك لو كان الموقوف شجرة يبست أو جذعاً كسر أو بلي فالبيع جائز ، وكذا لو أشرفت دار موقوفة على الانهدام وعلم أنه لو تركت على حالها لخرجت عن كونها منتفعاً بها ، فتباع رعاية للمالية أن تنقص وتحصيلا للمصلحة . وكذا المدارس والخانات المسبَّلة يجوز بيعها عند خرابها وشراء بدلاً منها وقفاً مماثلاً .
ولو شرط الواقف عدم البيع فإنه يجوز البيع إذا عَرَضَتْ حالة الخراب لانعدام الانتفاع وذهاب المقصود من الموقوف ، ويصرف ثمنه في مثله لأن في إقامة البدل مقامه تأبيداً له وتحقيقاً للمقصود .
ولو تعطلت جهة الوقف التي عيَّنها الواقف ، صرف البدل في جهة مثلها ، فلو وقف على الغزاة في مكان فتعطل فيه الغزو ، صرف البدل إلى غيرهم من الغزاة في مكان آخر تحصيلاً لغرض الوقف في الجملة .
ويجوز نقل الأثاث واللوازم والأدوات الخاصة بالمسجد الذي يجوز بيعه لخرابه أو خراب محلته ونقل أنقاضه إلى عمارة مسجد آخر إن احتيج إلى ذلك ، وحكم المسجد بعد بيعه يصير للمسجد الجديد الذي اشتري بثمنه ، ولا يجوز استعمال أثاث ولوازم المسجد الذي نقض إلى عمارة نوع آخر من بئر أو حوض أو قنطرة أو مدرسة .
أما لو نقلت آلة المسجد وأنقاضه من غير بيع فموقع المسجد باقٍ على أنه مسجد . فقد سئل الإمام أحمد عن رجلٍ بنى مسجداً فأُذِّن فيه ثم قلعوا هذا المسجد وبَنَوْا مسجداً آخر في مكان آخر ، ونقلوا خشب المسجد القديم إلى المسجد الجديد ، فأجاب بترميم المسجد القديم . فلا يمنع النقلُ منعَ البيع ولا منعَ إخراجِ البقعة عن كونها مسجداً .
وكذا البئر الموقوفة إذا خربت يصرف نقضها إلى بئر أخرى أو حوض لا إلى مسجد ، وكذا الرباط الموقوف إذا خيف على نقضه ينتقل إلى رباط آخر ولا يصرف إلى نوع آخر إلاَّ أن لا يوجد من ذلك الجنس .
إذن فالآلات في هذه الأمكنة لا يعمر بها ما عداه ؛ لأن جعلها في مثل العَيْن الخربة ممكن متعيِّنٌ دون غيره .
* وعند الحنبلية يصح بيع بعض الموقوف لإصلاح ما بقي منه ، لأنه إذا جاز بيع الكل عند الحاجة فبيع الجزء مع بقاء الجزء أولى من بيع الكل ، فهم يرون أن الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتاً ولم يتمكن من عمارتها ، أما إذا لم يمكن الانتفاع بشيء منه جاز بيع الكل ، واستدلوا بالإجماع والعقل ، أما الإجماع فقد روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نَقَبَ بيت المال الذي بالكوفة [ انقل المسجد الذي بالتمارين (اسم مكان بالكوفة) واجعل بيت المال في قبلة المسجد ، فإنه لن يزال في المسجد مصلى ] ، وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعاً . أما العقل فبيع الوقف هو استبقاء له بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته .
إذن يجوز بيع الوقف فقط في الحالات والضوابط المذكورة بإذن من القاضي الشرعي للمتولي على الوقف بعد توفر المسوغات الشرعية وتحقق المصلحة في ذلك .
أحكام بيع الوقف بغير مسوَّغ شرعي
إذا باع أحد الوقف بغير مسوغ شرعي سواء كان البائع متولياً أم غير متولٍّ ترتبت على البيع الأحكام التالية :
1- إذا كان البائع هو المتولي فقد استحق العزل ، لذا يجب على القاضي الشرعي أن يحكم بعزله . وإذا كان البائع قد خدع المشتري فلهذا المشتري الرجوع على بائعه سواء في ذلك المتولي وغيره .
2- يعتبر هذا البيع باطلاً بطلاناً مطلقاً لا تترتب عليه آثاره ، فلا يدخل الموقوف في ملك المشتري أبداً ، فيجب استرداده منه ، ويرجع المشتري بالثمن على البائع .
3- يُطَالَبُ المشتري بأجر مثل المدة التي استغلَّ فيها الوقف سواء علم أنه وقف أم لم يعلم ، ولا يقبل منه التذرع بأنه استعمل الموقوف بتأويلِ ملكٍ - أي بشبهة عقد البيع - لأن الوقف يعمل فيه بما هو أصلح وأنفع ، وأخذ أجرة المثل أنفع للوقف من تركها ، فإذا كان المشتري مخدوعاً فله أن يرجع بالأجرة التي دفعها على البائع .
4- إذا أحدث المشتري بالموقوف ما هو أصلح وأنفع للوقف أخذ منه ولا يُدْفَعُ له شيء ؛ لأنه يعتبر متبرعاً فيما أحدث .
وختاماً أؤكد ما ذكرته في المقدمة بأن التصرف في الوقف ببيعه أو هبته هو تصرف باطل بطلاناً مطلقاً لا ينشئ التزاماً ولا يرتب أية حقوق أو آثار قانونية ، فليحذر القائمون على شؤون الوقف وبالأخص الوقف النبوي الشريف .