الدعوة الإسلامية فريضة وضرورة
بقلم: محمد وثيق الندوي
كلُّ أمّة من الأمم تسعى لرفع مستوى معيشتها، وتكثير الضرورات والمرفّهات لمختلف الطبقات، وهذا شيء حسن، فمن ذا الذي يكره العافية والسعة والراحة، وإن جهد الناس لنيل مزيد من خير الله وفضله، والتمكين في الأرض، عمل مفهوم البواعث، إلا أننا لا نرضى للناس، ولا يرضى عاقل لنفسه، أن تكون الغاية القصوى من الحياة هي البطن الملآن، والبدن المزدان، فذلك هدف حيواني لا إنساني، كما كتب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى.
وليس من الحق أن يكون الإنسان لا يهمّه إلا البطن، وأن تقف الحكومات والشعوب عند هذه الغاية، لأن ذلك هبوط بقيمة الإنسان ورسالته، ونزول عن المكانة التي أرادها الله له، وذهول عما قاله عز وجل: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ " [المؤمنون:115-116].
وإن بعض المذاهب الأدبية والفلسفات الغربية تقول: "إن الحياة قد بنيت على الشرّ، وإن ما يبدو فيها من مظاهر الخير ليس إلا طلاء زائفًا يموه واقع الحياة، ويخفى طبيعة الإنسان الحقيقية، فالشجاعة وبذل النفس رخيصة في ميادين البطولة ليسا إلا يأسًا من الحياة، أو خضوعًا لمواقف دفعت إليها الضرورة دفعًا، والجود والتسامى ما هما إلا أثرة ومباهاة يلبسهما الإنسان لبوس الخير والإيثار، والحمل على بلوغ المجد والتطلع إلى معالي الأمور لا يزيد من كونه تكالبًا على الحياة، وتحقيقًا لرغبات النفس في استدامتها".
ويقول الفيلسوف الإنجليزي هوبز: "إن الإنسان ذئب لا همّ له إلاّ الفتك بالإنسان".
وإن هذه الفلسفة والنظرية الغربية لا يقبلها العقل ولا يقرها الشرع، لأن للإنسان هدفًا أعلى وأسمى من ملأ البطن، وإنه قد خلق لغرض أسمي، وهو عبادة الله وحده "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56].
وقد بُعِث الرسل والنبيون لشرح هذا الغرض الأسمى من الخلق، واستمرت هذه السلسلة سلسلة النبوة والأنبياء حتى اختتمت ببعثة النبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالرسالة السماوية الأخيرة ليضع أمّة تمثِّلها، وتقوم عليها، وترفع رايتها في الآفاق.
فالأمة الإسلامية ليست كسائر الأمم التي ليس لها هدف إلا المعدة والمادة، بل هي صاحبة رسالة عظيمة، تميِّزها عن غيرها، ووظيفة هذه الأمة هي الوصاية على البشرية، والدعوة إلى الخير، وإعلاء كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الفضيلة، ومكافحة الرذيلة، وحراسة دين الله، وإبقاء مناره عاليًا يومض بالنور الهادي لكي يهتدى به السارون في ظلمات البر والبحر، وإيصال سفينة الإنسانية إلى برّ السلام والنجاة، كما جاء في القرآن: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران:110].
وإن منزلة الناس من هذه الأمة كمنزلة هذه الأمة من نبيِّها، فكما جاء النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من عند الله معلمًا ومبشرًا ونذيرًا، وكما أخرج هذه الأمة بإذن الله من العمى إلى الهدى، ومن الضلالة إلى الهداية، ومن الظلم إلى العدل، ومن القتال والحرب إلى الأمن والمحبة، فعلى أتباعه أن يقوموا بنشر الحق الذي شُرفوا به، والرسالة التي حملوها، ويكونوا جسرًا تعبر إليه الهداية لتنتشر في المعمورة كلها "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة:143].
وقد فهم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وظيفة هذه الأمة، وهي الدعوة إلى الله، وإنقاذ الإنسانية من الهلاك والدمار، وفهموا أن القيام بالدعوة واجب، وإن إبلاغ رسالة الله حق، وإن حبس أنوار الإسلام في حيز من الأرض جريمة، وعلى هذا الفهم الصحيح تكونت هذه الأمة الإسلامية تكوّنًا متميز الطبيعة والحركة مستبين المبنى والمعنى، تزدوج مثلها العليا مع قواها المادية، كما يزدوج الروح والجسد بحيث لا يُتصور بينهما فصل.
فانتشر المسلمون الأولون في مختلف أنحاء العالم بهذه الدعوة والرسالة الإسلامية، ودوخوا العالم، وفتحوا البلدان، وسخروا النفوس، وأخضعوا الملوك، وحكموا مناطق شاسعة قرونًا طويلة، وقد أتت هذه الدعوة والرسالة بخوارق ومعجزات بهرت الألباب، وطالما قهرت القاهر، وفتحت الغالب، وطالما خضعت الحكومات القاهرة، ودانت الملوك الجبابرة بقوة الدعوة والرسالة للمماليك، كما أشار إلى ذلك الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله: "سرعان ما قهرت دعوتهم ورسالتهم وحياتهم الأمم الرومية والفارسية التي كانت كدمى كسيت حللاً فاخرة، وأعوادًا أسندت إلى الجدار، لحرمانها من رسالة، وقعودها عن دعوة، وكان الانتصار في الأخير للرسالة على النظام وللروح على المادة، وللمعنى على الظاهر، وكذلك وقع في عهد التتر الذين فعلت فيهم الدعوة للإسلامية فعلها، ونفذت فيهم، فإذا القاهر يصبح مقهورًا، وإذا الفاتح يصبح مفتوحًا، وإذا التتر يتلفظون بكلمة الإسلام ويدينون لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويصبحون أمة إسلامية".
ومما يبعث على الأسف أن المسلمين اليوم قد تشاغلوا بالدنيا كالشعوب والأمم الأخرى، وسعوا وراءها، وعقدوا حياتهم بها، ونسوا أو تناسوا واجب إبلاغ الدعوة والرسالة الإسلامية، فإذا قمنا بالاطلاع على البلاد والمدن الإسلامية، واستعرضنا الحياة فيها، لم نجد قرقًا بين المسلمين وبين غيرهم من الأمم، سعىٌ -كما صوّر الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي في محاضرة له- وراء المادة في غير اقتصاد، واكتسابٌ من غير احتساب، سهرٌ في غير طاعة، وعمل في غير نية، وتجارةٌ في لهو من ذكر الله، وحرفةٌ في جهل عن دين الله، ووظيفةٌ في الإخلاص لغير الله، وحكومةٌ في مشاقة الله، وشغلٌ في ضلالة، وقعودٌ في بطالة، وحياةٌ في غفلة وجهالة، وهناك خلافاتٌ علمية ومذهبية أحدثت فجوات عميقة بين المسلمين، وقطَّعتهم في الأرض أممًا متدابرة، وهم في واقع أمرهم وطبيعة دينهم أمة واحدة.
وإن حياة الأمم والشعوب بالرسالة والدعوة، وإن الأمة التي لا تملك رسالة ولا دعوة، حياتُها مصطنعة غير طبيعية، وإنها كورقة انفصلت من شجرتها، فلا يمكن أن تحيا بسقى أو ريّ "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" [الرعد:17].
وإن الحاجة إلى وحي الله، وقيادة المرسلين، لا تنقطع أبدًا، وقد مرّ العالم بعصور طوال، ليس من بينها عصر خفت فيه حاجته إلى دعوة الله، وصوت الوحي، ولكن هذا العصر الذي نعيش فيه هو أشد العصور حاجة إلى الاتصال بالسماء، والعودة إلى الدين لأن الحياة المادية الصاخبة والحياة الإلحادية حرمت الإنسان من السعادة والهدوء، وسلبته طمأنينة القلب، وجعلت الحياة جحيمًا.
وإن الجفاف الروحي، والابتعاد عن الله، والبعد عن تعاليم النبوة والأنبياء، وغلبة الأثرة والجشع والاستغلال على الأقوياء، وسيادة العقل في كل شيء، نذير شئوم، وأي تقدّم ورقي يحرزه العلم في مختلف مجالات الحياة لا يبعث على التفاؤل، مالم تصحبه عودة صادقة إلى الله، وإعزاز لأمره وإعلاء لشرعه.
والمسلمون أمة الحاضر، وأمة المستقبل، قد كتب لهم الخلود والنصر والتمكين في الأرض، لأنهم أصحاب دعوة ورسالة نبوية، وهي الرسالة الأبدية التي قضى الله بخلودها وظهورها وغلبتها بشرط أن يقوموا بدعوتهم الإسلامية، ويستقلوا برسالتهم، ويعودوا أمة دعوة نبوية كما بدأوا، دعوة فيما بينهم، ودعوة في غيرهم.
فكل من يتابع ما يجري في العالم الإسلامي من التهافت على المادة وإيثارها على كل مبدأ وعقيدة، وإيثار الدنيا على الآخرة، والإخلاد إلى الأرض، واتباع الهوى وتحقيق الأهواء والرغبات، والتفسخ والانحلال الخلقي، والاستهانة بمحارم الله والاستهزاء بشعائر الله، يصادف أن هناك موجة عارمة لانحطاط في الأخلاق، وضعف في العبادات، واستهانة بالشعائر الدينية، وعدم الاحترام للمقدسات الدينية، وتقليد أعمى للغرب تكتسح العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.
فمن أرجحيات العمل الإسلامي اليوم أن تقاوم هذه الموجة اللادينية التي تجتاح المجتمعات الإسلامية، وتغزو العقول والنفوس المسلمة، وتعاد الثقة إلى الشباب والمثقفين بمبادئ الإسلام وعقائده وحقائقه ونظمه وحضارته، كما لابد من إزالة القلق الفكري والاضطراب النفسي، ومكافحة المبادئ اللادينية والاتجاهات الإلحادية التي تغزو المسلمين في عقر دارهم، وإقناع الناس بالمبادئ والقيم الإسلامية، بأسلوب علمي مؤثر ملائم للطبيعة المعاصرة.
وهذا العمل الدعوي الإسلامي يحتاج إلى دعاة أقوياء في الإيمان والأخلاق، والعقيدة والسلوك، ومزدوين بالعلوم والمعارف الإسلامية، ومطلعين على مقتضيات العصر ومشكلاته، وقادرين على استعمال الوسائل الحديثة المتطورة، وإقناع النفوس والعقول بمكارم أخلاقهم، وقوة شخصيتهم، والزهد في حطام الدنيا، والعزوف عن الشهوات، وتمثيلهم تمثيلاً صادقاً حيًا للنظام الإسلامي للحياة، كما لابد لهم أن يتصفوا بالصبر، والمثابرة، والمرابطة، وتقوى الله في السر والعلن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران:200.
وذلك لا يتحقق بالقرارات والمؤتمرات، ولا بالانقلابات والثورات، ولا بالوعظ والإرشاد وحده، ولا بالخدمات الاجتماعية الجزئية، إن هذا العمل المنشود لابدَّ أن تصحبه حركة إسلامية حركة واعية شاملة، كما لابد للعمل الإسلامي المطلوب أن يكون قائمًا على أساس متين من التنظيم المحكم والتخطيط الدقيق والتنسيق المتقن حتى يؤتي أكله ويحقق أهدافه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد وثيق الندوي (مدير تحرير صحيفة الرائد)