الصديق في اجتماع السقيف "وقائع، دروس، وعبر"
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
لمّا علم الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السَّنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار مَنْ يلي الخلافة من بعده.
1ـ الصِّدِّيق وتعامله مع النُّفوس، وقدرته على الإقناع:
من رواية الإمام أحمد يتَّضح لنا كيف استطاع الصِّدِّيق أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يدخل إلى نفوس الأنصار، فيقنعهم بما راه هو الحقُّ، من غير أن يُعرِّض المسلمين للفتنة، فأثنى على الأنصار ببيان ما جاء في فضلهم من الكتاب والسُّنَّة، والثناء على المخالف منهجٌ إسلاميٌّ يقصد منه إنصاف المخالف، وامتصاص غضبه، وانتزاع بواعث الأثرة، والأنانيَّة في نفسه، ليكون مهيَّأً لقبول الحق إذا تبيَّن له، وقد كان في هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم الكثير من الأمثلة التي تدلُّ على ذلك. ثمَّ توصَّل أبو بكرٍ من ذلك إلى أنَّ فضلهم وإن كان كبيراً لا يعني أحقيَّتهم في الخلافة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على أنَّ المهاجرين من قريشٍ هم المُقَدَّمون في هذا الأمر.
وقد ذكر ابن العربيِّ المالكيُّ: أنَّ أبا بكرٍ استدلَّ على أنَّ أمر الخلافة في قريشٍ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بالأنصار خيراً، وأن يقبلوا من محسنهم، ويتجاوزوا عن مسيئهم » احتجَّ به أبو بكرٍ على الأنصار قوله: إنَّ اللهَ سمَّانا (الصَّادقين) وسمَّاكم (المفلحين) إشارة إلى قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *وَالَّذِينَ تبوؤوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [الحشر: 8، 9]، وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنّا، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *} [التوبة: 119] .
إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة، والأدلَّة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك، وانقادت إليه،(الحميدي، 1998،ج9،ص24) وبيَّن الصِّدِّيق في خطابه أنَّ مِنْ مؤهِّلات القوم الذين يرشَّحون للخلافة أن يكونوا ممَّن يدين لهم العرب بالسِّيادة، وتستقرُّ بهم الأمور، حتّى لا تحدث الفتن فيما إذا تولَّى غيرهم، وأبان: أنَّ العرب لا يعترفون بالسِّيادة إلا للمسلمين من قريشٍ؛ لكون النبيِّ صلى الله عليه وسلم منهم، ولما استقرَّ في أذهان العرب من تعظيمهم، واحترامهم .
وبهذه الكلمات النَّيِّرَة التي قالها الصِّدِّيق اقتنع الأنصار بأن يكونوا وزراء مُعينين وجنوداً مخلصين، كما كانوا في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك توحَّد صفُّ المسلمين. (بن العربي،1989، ص10)
2ـ زهد عمر، وأبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ في الخلافة، وحرص الجميع على وحدة الأمَّة:
بعد أن أتمَّ أبو بكرٍ حديثه في السَّقيفة قدَّم عمر، وأبا عبيدة للخلافة، ولكن عمر كره ذلك، وقال فيما بعد: فلم أكره ممّا قال غيرها، كان والله أن أقدَّم فتضرب عنقي لا يُقَرِّبني ذلك من إثمٍ أحبَّ إليَّ من أن أتأمَّر على قومٍ فيهم أبو بكرٍ. (الحميدي،1998، ج9،ص24)
وبهذه القناعة من عمر بأحقيَّة أبي بكرٍ بالخلافة قال له: ابسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده، قال: فبايعته، وبايعه المهاجرون، والأنصار. وجاء في رواية: قال عمر: . . . يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون: أنَّ رسول الله قد أمر أبا بكر أن يَؤُمَّ الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدَّم أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر.
وهذا ملحظٌ مهمٌّ وُفِّقَ إليه عمر ـ رضي الله عنه ـ وقد اهتمَّ بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مرض موته، فأصرَّ على إمامة أبي بكرٍ، وهو من باب الإشارة بأنَّه أحقُّ من غيره بالخلافة، وكلام عمر في غاية الأدب، والتَّواضع، والتَّجرُّد من حظِّ النفس، ولقد ظهر زهد أبي بكرٍ في الإمارة في خطبته التي اعتذر فيها من قبول الخلافة حيث قال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً، ولا ليلةً قطُّ، ولا كنت فيها راغباً، ولا سألتها الله عزَّ وجلَّ في سرٍّ، وعلانيةٍ، ولكنِّي أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحةٍ، ولكن قُلِّدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله عزَّ وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني.
وقد ثبت: أنَّه قال: وددت أنِّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرَّجلين، أبي عبيدة، أو عمر فكان أمير المؤمنين، وكنت وزيراً. وقد تكرَّرت خطب أبي بكرٍ في الاعتذار عن تولِّي الخلافة، وطلبه بالتنحِّي عنها، فقد قال: . . . أيُّها الناس! هذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم على ذلك، وأكون كأحدكم. فأجابه الناس: رضينا بك قسماً وحظاً، وأنت ثاني اثنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (السيوطي، 1997،ص91) وقد قام باستبراء نفوس المسلمين من أيِّ معارضةٍ لخلافته، واستحلفهم على ذلك، فقال: أيها الناس! أذكر الله أيُّما رجلٍ ندم على بيعتي لمّا قام على رجليه، فقال عليُّ بن أبي طالب، ومعه السَّيف، فدنا منه حتى وضع رِجلاً على عتبة المنبر، والأخرى على الحصى، وقال: والله لا نقيلك، ولا نستقبلك، قدَّمك رسول الله، فمن ذا يؤخِّرك؟ (العمري، 1994، ص13) ولم يكن أبو بكر وحده الزَّاهد في أمر الخلافة والمسؤوليَّة بل إنَّها روح العصر.
ومن هذه النُّصوص التي تمَّ ذكرها يمكن القول: إنَّ الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة لا يخرج عن هذا الاتِّجاه، بل يؤكِّد حرص الأنصار على مستقبل الدَّعوة الإسلاميَّة، واستعدادهم المستمر للتَّضحية في سبيلها، فما اطمأنُّوا على ذلك حتّى استجابوا سراعاً لبيعة أبي بكر؛ الذي قبل البيعة لهذه الأسباب، وإلا فإن نظرة الصَّحابة مخالفةٌ لرؤية الكثير ممَّن جاء بعدهم ممَّن خالفوا المنهج العلميَّ، والدراسة الموضوعية.
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص124-127
أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم، تحقيق محبِّ الدين الخطيب، إِعداد محمد سعيد مبيض، دار الثقافة، الدَّوحة، الطَّبعة الثانية 1989م.
جلال الدِّين السُّيوطي، تاريخ الخلفاء عُني بتحقيقه إِبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1997م.
عبد العزيز عبد الله الحميدي، التَّاريخ الإِسلاميُّ مواقف وعبر، . دار الدَّعوة، الإِسكندريَّة، دار الأندلس الخضراء، جدَّة، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1998م.
محمود شاكر، التَّاريخ الإِسلاميُّ، الخلفاء الرَّاشدون، المكتب الإِسلاميُّ، الطَّبعة الخامسة 1411هـ 1990م.
أكرم ضياء العمري، عصر الخلافة الرَّاشدة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنوَّرة، الطَّبعة الأولى 1414هـ 1994م.