البحث

التفاصيل

قضاءٌ وقدرٌ_1_

الرابط المختصر :

قضاءٌ وقدرٌ

الشيخ محمد الغزالي

إحساس المؤمن بأن زمام العالم لن يفلت من يد الله؛ يقذف بمقادير كبيرة من الطمأنينة في فؤاده. إذ مهما اضطربت الأحداث وتقلبت الأحوال فلن تبت فيها إلا المشيئة العليا: ( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [يوسف: 21].

وهذا يفسر ركون المسلم إلى ربه بعد أن يؤدي ما عليه من واجب. إنه يتوكل عليه ويستريح إلى ما يتمخض عنه المستقبل من نتائج بعدما بذل جهده فيما وكل إليه من عمل وإعداد واحتياط.

والحق أنه لا معنى لتوتر الأعصاب واشتداد القلق بإزاء أمور تخرج عن نطاق إرادتنا.

قد يقرع الإنسان سن الندم على تفريطه، وقد يستوجب أقسى اللوم على تقصيره.

أما أن يطلع القدر عليه بما لا دخل له فيه، فهو ما لا مكان فيه لندم أو ملام، وبالتالي لا مكان فيه لقلق أو ريبة.

ومن ثم ينبغي أن نستقبل الدنيا بيقين وشجاعة، ويعجبني قول علي:

أي يومي من الموت أفر؟ .. يوم لا يقدر؟ أو يوم قدر؟

يوم لا يقدر لا أحذره .. ومن المقدور لا ينجو الحذر!!

بهذا المنطق يواجه الرجل العطوب وهو جريء.

أما إذا فرغت نفسه من الله، ونظر إلى الأحداث كأنها موج يتدفع مدًا وجزرًا، يغرق فيها من يغرق، وينجو من ينجو، فإنه يحيا بفؤاد هواء، تلعب به الأحداث والظنون.

إن الركون إلى القدر –وهو غير القول بالجبر-، والبراءة من الحول والطول؛ يورث جراءة على مواجهة اليوم والغد، ويضفي على الحوادث صبغة تحبب بغيضها، وتجعل المرء يقبل –وهو مبتسم- خسارة النفس والمال.

وذاك ما عنته الآيات الكريمة: ( قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) [التوبة: 51-52] يعنون كسب المعركة بالنصر، أو الموت فيها دون الظفر بها، وهو حسن كذلك، لأن ما عند الله من مثوبة محفوظ مضمون.

أما الذين لا دين لهم فهم إن انتصروا أو انهزموا بين عذابين: آجل أو عاجل!! قال تعالى: ( وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ) [التوبة: 52].

هذا موقف المؤمنين بالأقدار يتسم بالقوة والتحدي، ولا شائبة فيه لريبة أو استخذاء. غير أن كثيرًا من الناس يجهلون هذه الحقيقة أو يجحدونها، ويباشرون أعمالهم وهم يحملون بين جوانبهم همومًا مقيمة، ومشاعر عقيمة.

وهم لا يجزعون من أحزان تصيبهم فحسب، بل يجزعون من أحزان يتوقعونها، ويفترضون أن المستقبل قد يرميهم بها.

وكم يجمح بهم الخيال فيملأ حياتهم بأشباح الموت والدمار، ويوهمهم أنهم بين الحين والحين معرضون لهجوم من هنا وغدر من هناك!!.

قال (ديل كارنيجي): "لكن كثيرًا من الرجال الناضجين لا تقل مخاوفهم سخفًا عن مخاوف الأطفال والصبيان، وفي استطاعتنا جميعًا أن نتخلص من تسعة أعشار مخاوفنا توًا لو أننا كففنا عن اجترار خواطرنا، واستعنا بالحقائق المدعومة بالإحصاء، لنرى إن كان هناك حقًا ما يبرر تلك المخاوف".

إن شركة (لويد) بلندن، وهي أشهر شركات التأمين في العالم، قد ربحت ملايين الجنيهات من استغلالها ميل الإنسان إلى التوجس من أبعد الأمور احتمالًا... هذه الشركة تراهن الناس على أن الكوارث التي يخشون حدوثها، ويساورهم القلق من أجلها، لن تحدث أبدًا.

على أنها بداهة لا تسمي هذا العمل مراهنة، بل تسميه تأمينًا، وقد ظلت هذه الشركة تواصل أعمالها بنجاح مئتي سنة.

وما لم تتغير طباع الناس فستواصل هذه الشركة نجاحها خمسين قرنًا أخرى، وستظل تقبل التأمين على الأحذية والسفن، وغير ذلك، لأن الكوارث التي يتوقعها الناس لا تقع بالكثرة التي يتصورونها.

الفزع من المستقبل المجهول، وتوقع الخسار الفادح، والشعور بالوهن عن حمل هذه المصائب المتوهمة، هو سر قيام شركات التأمين، وتغلغل فروعها في أرجاء الحياة العامة.

ومن هذا الفرق في الحقيقة –بين ما يقع فعلا، وما يقع وهمًا- تستولي هذه الشركات على قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، مستغلة خشية الخوافين على أعمارهم حينًا، وعلى أموالهم حينًا آخر!!

وقد حاول (ديل كارنيجي) أن يشفي صرعى الأوهام بسرد إحصاءات صادقة عن النوازل التي تقع بالبشر في البر والبحر. وهو علاج في نظرنا لا يحسم العلة التي تنتشر حتمًا حيث تفرغ القلوب من الإيمان.

إن الحضارة الحديثة سيئة العلم بالله، وهي بالتالي مزعزعة الثقة فيه، ولذلك تعالج أدواءها بأدوية رديئة، من مراهنة تسمى تأمينًا، ومن إحصاءات تبين للمرعوبين أن نسبة الإصابات أخف مما يتصورون.

ونحن ننادي بأخذ الحيطة للمستقبل، وإرصاد العوض لكل مصاب، ولكننا نستنكر المتاجرة بالذعر الناشئ عن خور اليقين كما تفعل شركات التأمين، ونستنكر الفرق الذي يستحوذ على الجبناء عندما يدفعهم الشك إلى ترقب الموت كامنًا في كل أفق..!!

واسمع إلى قصة تاجر اعتاد أن يعذب نفسه بهذه الأفكار يرويها (كارنيجي): "ماذا لو تصادم القطار الذي ينقل البضاعة؟ ماذا لو انهار جسر في اللحظة الذي يمر القطار فيها؟! نعم إن البضاعة مؤمن عليها، ولكنه يخشى إن لم تصل الفاكهة في الوقت المحدد أن يفقد عملاءه، ولقد أجهد نفسه من فرط القلق حتى خيل إليه أنه أصيب بقرحة في المعدة، فذهب إلى الطبيب، فأكد له الطبيب أنه سليم معافى إلا من توتر أعصابه.

قال مستر (جرانت): لقد أحسست عندما قال لي الطبيب هذا، كأنما أخرجت من الظلمات إلى النور، وأخذت أسائل نفسي: كم عربة من عربات البضاعة استخدمت في خلال العام المنصرم؟ وكان الجواب: نحو خمسة وعشرين ألف عربة، وعدت أسأل نفسي: كم من هذه العربات تحطم لسبب من الأسباب؟ وكان الجواب: خمس عربات... حينئذ قلت لنفسي: خمس عربات من خمسة وعشرين ألف عربة!! أتدري ما معنى هذا؟.

معناه: أن معدل نسبة الخسارة هو عربة واحدة من كل خمسة آلاف عربة، فعلام القلق إذن؟!.

أقول: وبث الطمأنينة في النفوس –بتبيان الحقائق على هذا النحو الحاسم- شيء حسن.

ولكنه لا يحصن ذوي الأمزجة السواد والهواجس الرجراجة.

إن الشخص المتشائم ينكص أمام التخيلات التي تنعقد سحائبها من نفسه.

وما دام ضعف الإيمان يسيطر عليه، فهو سيفترض النحس مقبلًا عليه من أندر نسبة للشر يمكن أن تقع، ولن تقر نفوس هؤلاء إلا إذا خالطها محض الإيمان بالله والتسليم له، والرضا بما يقدره.

_جدد حياتك _





السابق
الجزائر وفلسطين توقعان اتفاقية "عمالية" لخدمة القضية الفلسطينية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع