البحث

التفاصيل

الحمد لله الذي بلَّغَنا شعبان

الرابط المختصر :

الحمد لله الذي بلَّغَنا شعبان

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي – عضو الاتحاد

روى الصحابي طلحة بن عبيد رضي الله عنه: {أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، ربي وربك اللَّه ، هلال رشد وخير} رواه الترمذي ، وزاد الدارمي: {والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى ، ربنا وربك الله}

الحمد لله أن بلَّغنا ربُّنا شهر شعبان بعد أن بلَّغنا شهر رجب ، الحمد لله أن أظلنا شهر العبادة والقرآن ، شهر رفع الأعمال إلى الله عز وجل،

هذا الشهر الكريم الذي تحققت فيه لنبينا وشفيعنا صلى الله عليه وسلم إحدى أهم الأمنيات وهي تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة التي أقام دعائمها سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ، {فبينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آتٍ فقال : إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقْبِلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى القبلة} رواه البخاري ، وقال الصحابي البراء بن عازب رضي الله عنه: {صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة فنزلت بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلق رجل من القوم فمرَّ بناسٍ من الأنصار وهم يصلون فحدثهم فولَّوْا وجوههم قبل البيت} رواه مسلم ، فقد قال سبحانه وتعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } البقرة 144 ، وهذه الآية سبقها قوله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} البقرة 142 ، حيث أخبر سبحانه مسبقاً عن موقف الإنكار الذي سيواجهه قرار تحويل القبلة من السفهاء .

ولهذا أكد الله سبحانه في آيات تاليات وجوب التوجه إلى هذه القبلة على الرغم من تشكيك السفهاء فقال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} البقرة 149-150

لقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أذى اليهود ، فإن اليهود كان يسرّهم أن يستقبل النبي صلى الله عليه وسلم قبلتهم ، ولما تحوّل إلى الكعبة أنكروا هذا التحول ، بل هذا من دلائل النبوة والإخبار الصادق عن الغيب ، فقد نزل القرآن الكريم بأن هذا الحدث سيكون مثار تشكيك وجدل عنيف من أهل الكتاب وربما من كل من يعادي الإسلام ، ولكنهم لأنهم سفهاء فعلاً اعترضوا وأنكروا وشككوا ، ولو كان لديهم أدنى عقل أو فطنة لسكتوا حتى يثبتوا عدم صدق هذا الإخبار ، ولكن الله عليم بما يحيكون ويخفون في قلوبهم وضمائرهم .

لكل ذلك كان تحويل القبلة من علامات الأمة الظاهرة ، وكان إحدى وسائل تمييز الصف المسلم وتمحيصه ، تماماً كما كانت رحلة الإسراء والمعراج وغيرها من الأحداث التي واجهتها الدعوة الربانية ورسالة التوحيد وزخرت بها كتب السيرة النبوية ، فهي أحداث تصب في سياق التطهير وتنقية الصف المسلم من الدخلاء غير الصادقين في الولاء ، وتمثل اختباراً لمدى قدرة الأمة المسلمة على الرضا الإيمان والتسليم لكل ما يجيء به دينها ، ولمدى إمكانية أن تغير ما في نفسها كي تؤمن وتطيع وتلتزم.

 لقد جاء أمر تحويل القبلة نظراً لمكانة الكعبة بيت الله الحرام عند الله عز وجل وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يظنُّ ظانٌّ أن هذا التحويل تنزيل من مكانة وقيمة المسجد الأقصى المبارك في عقيدة الإسلام ورسالة التوحيد ، فهو ما زال في عقيدة الأمة قبلتهم الأولى ، ومسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم ، وهو مسجدٌ معظَّمٌ مشرَّفٌ تشد الرحال إليه بعد البيت الحرام والمسجد النبوي ويضاعف فيه أجر الصلاة أضعافاً كثيرة.

 وشهر شعبان شهر العبادات ، ولعلّ الصيام من أهم العبادات فيه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: {كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم ، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان ، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان} رواه البخاري ، وعن الصحابي أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: {قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ، فقال ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم} رواه النسائي ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت {كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ، بل يصله برمضان} رواه أبو داود وصححه الألباني

ومن دلالات حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام في شهر شعبان أنه مقدمة واستعداد لصيام رمضان ، فهو يبني قدرة المرء على الصيام بحيث كلما صام المرء أكثر زادت قدرة الصيام  لديه أكثر مما يعني أنه سيكون أكثر جاهزية من أول يوم في رمضان للصيام وأداء أعماله الصالحات صياماً وقياماً وتهجداً وصدقة وقراءة للقرآن ، وهذا مما يحيي قلبه ويرققه ، وقد قال ابن رجب رحمه الله في ذلك [ صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم ، وأفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده ، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها فهي تكملة لنقص الفرائض ، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده ، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه].

 وفي شهر شعبان على المؤمن أن يقضي ما فاته من صيام رمضان ، قالت عائشة رضي الله عنها: {كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان} رواه البخاري ، وقالت في حديث آخر لها { لقد كانَت إحدانا تُفطِرُ في رَمضانَ ، فما تقدرُ على أن تقضيَ حتَّى يدخلَ شعبانُ} رواه النسائي، إذن فمن بقي عليه شيء من رمضان الماضي فيجب عليه صيامه قبل أن يدخل رمضان القادم ولا يجوز التأخير إلى ما بعد رمضان القادم إلا لضرورة ، ومن استطاع القضاء قبل رمضان ولم يفعل فعليه مع القضاء بعده التوبة وإطعام مسكين عن كل يوم ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.

وأما بخصوص العبادات الأخرى في شهر شعبان فإن شهر رمضان هو وقت إخراج الزكاة وإعطاء الكثير من الصدقات عند معظم الناس ، فإن نعمة الله فيه لا تقارن ، ومن الناس من يبدأ في تقديم الصدقات التطوعية في شعبان استعداداً واستخدام هذا الشهر المفضل لتنظيم تسوية ديونه حتى لا يعوقه أي شيء عن دفع زكاته في رمضان.

وقال سلمة بن سهيل رحمه الله كان يُقال [شهر شعبان شهر القراء] ، وكان حبيب بن أبي ثابت رحمه الله إذا دخل شعبان قال [ هذا شهر القراء] وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن ، وروي عن الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال { كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهل شهر شعبان أكبوا على المصاحف فقرءوها ، وأخذوا في زكاة أموالهم فقوَّوْا بها الضعيف والمسكين على صيام شهر رمضان، ودعا المسلمون مملوكيهم فحطوا عنهم ضرائب شهر رمضان}.

وقال أبو بكر البلخي رحمه الله [شهر رجب شهر الزرع ، وشهر شعبان شهر سقي الزرع ، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع ] وقال أيضا [ مثل شهر رجب كالريح ، ومثل شعبان مثل الغيم ، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان] ولذلك كان تسابق السلف الصالح على هذا الأمر واضحاً.

أما عن الصيام في آخر شهر شعبان فقد ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن {النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : هل صمتَ من سَرَرِ هذا الشهر شيئاً ؟ قال لا ، قال فإذا أفطرت فصم يومين } وفي رواية البخاري: أظنه يعني رمضان ، ومعنى السرر آخر الشهر، وسمي آخر الشهر سراراً لاستسرار القمر فيه أي لاختفائه ، فإن قال قائل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين ، إلا من كان يصوم صوماً فليصمه} رواه البخاري ، فالجواب واضح من آخر الحديث ، وعند كثير من العلماء وأكثر شراح الحديث أن هذا الرجل كان له عادة بصيام شعبان أو أنه نذره فلذلك أمره بقضائه.

فالحمد لله أن بلّغَنا شهر شعبان، فلْنغتنمه للعبادات والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات وعمل الصالحات ، وندعوه سبحانه أن يبلّغنا شهر رمضان المبارك إن سميع بصير.

ــــــــــــــــ

الكاتب: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.





التالي
فقه القدس والمسجد الأقصى
السابق
الداخلية التونسية تقرر رفع عقوبة الإقامة الجبرية الصادرة في حق نور الدين البحيري

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع