نعى فضيلة د. علي محيي الدين القـَرَة داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مايتعرض له أولاد المسلمين الذين يعانون من القتل والتعذيب والجوع والتشريد في معظم بلادنا الإسلامي، ولا سيما في فلسطين، وقال فضيلته مرت علينا خلال هذه الأيام الذكرى 64 من هذه النكبة، التي أصابتنا جميعاً، ولكنها أصابت إخواننا الفلسطينيين خاصة، هذه النكبة التي بدأت بغرس هذه الدولة الصهيونية أو الجرثومة في قلب العالم العربي وفي قلب العالم الإسلامي، في أبرك مكان بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، تلك الأرض المباركة التي فيها الأقصى، التي بين الله سبحانه وتعالى بركة الله في الأقصى وما حول الأقصى، وهؤلاء إخواننا الأسرى يعانون أشد المعاناة من إيذاء وتصرفات إجرامية نحوهم، وأكثرهم معتصمون وممتنعون عن الأكل لأنهم يرون أن الموت أعز مما يعانون كما يقول الشاعر:
إذا أظمأتك أكف اللئا
كفتك القنَاعة شِبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى
وهامة همته في الثريا
أبيًّا لنَائل ذي ثروة
تراه بما في يديه أبيا
فإن إراقة ماء الحياة
دون إراقة ماء المحيا
هؤلاء لا يرعون أبدا، لا حقوق الله ولا حقوق العباد، ولا القوانين، فعلينا على أقل التقدير أن ندعو لهم بالتضرع إلى الله سبحانه وتعالى لأن ينصرهم نصرا عزيزا.
الامم لاتتحرك
ودعا فضيلته في خطبة الجمعة الماضي بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها بفريق كليب إلى أن نتذكر أطفالنا في سوريا يقتلون ويشردون ويعدمون مع آبائهم وأمهاتهم في هذا الظلم البائن، وهذا الجور الواضح، دون أن تتحرك الأمم المتحدة أو الدول الإسلامية تحركا مؤثرا، ولو كانت القضية تخص اليهود أو تخص النصارى لكانت النتيجة شيئا آخر، وأقاموا الدنيا وما أقعدوها. فعلينا بدعم إخواننا في سوريا بكل ما نستطيع إعلاميا ومالياً وأن نضغط من خلال وسائل الإعلام على حكوماتنا حتى تقوم بواجبها، وإن كانت، وللحق نقول، إن دولة قطر لا تألو جهدا في هذا المجال ونحن ندعو لها أن تستمر في دعم هؤلاء المظلومين والمضطهدين.
في مصر: تولية الأصلح
ولا يسعنا إلا أن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يوفق مصر، التي هي حقيقة عزتها عزة الجميع، وقوتها قوة للعرب والمسلمين، ونسأل الله العظيم أن يوفقهم في اختيار رئيس يقوم بتحقيق العدل، ويقوم على أساس العدل والقيم، وإعادة الدور العظيم لهذه الدولة العظيمة، التي كان لها تاريخ ولا زال لها تاريخ، وعلينا أن نقف وأن ندعو إخواننا المصريين بأن يختاروا الأصلح دون النظر إلى أي ادعاءات مغرضة توجه ضد الإسلاميين بشكل خاص، وهم أي المصريين جربوا الاشتراكيين وجربوا الشيوعيين وكذلك القوميين وقد فشلوا جميعا، فليعطوا المجال للإسلاميين ولمن هو أفضلهم دون أن نخصصهم، هم أعلم بذلك، وشعب المصر أقدر على ترشيح من هو مناسب، ولكن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يسدد خطاهم، وأن يسدد اختيارهم نحو الأصوب والأحسن.
بين الوالدين والأولاد
وكان فضيلته قد بدا خطبته الثانية قائلا:لقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن أن الإسلام يقيم العلاقات الإنسانية وحتى العلاقات بين الانسان وبين الله سبحانه وتعالى على أساس الحقوق المتبادلة، وليس على أساس الحقوق المحضة فقط من طرف دون طرف، ولا على أساس المسؤوليات وحدها دون أن يكون في مقابلها حقوق، فلا بد أن تكون هناك حقوق وواجبات وهذا ما سمي في المصطلح الإسلامي بالحقوق المتقابلة. ونحن في هذه الخطبة نتحدث عن هذه الحقوق المتقابلة بين الوالدين والأولاد بعدما تحدثنا في الخطبة السابقة عن الحقوق المتقابلة بين المسلمين بعضهم مع بعض، بين كل فرد وآخر من هذه الأمة الإسلامية. وبين الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات حقوق الوالدين على الأولاد، ولخصها قوله سبحانه وتعالى {وَقَضَىٰ رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ وَبالوَالِدَيْن إحْسَانًا ۚ إمَّا يَبْلغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقلْ لهُمَا أفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقلْ لهُمَا قَوْلا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لهُمَا جَنَاحَ الذلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، ونحن لا نفصل في هذه الحقوق، ولكن نتحدث عن الحقوق المفصلة بشيء من الإيجاز، الحقوق التي أوجب الله سبحانه وتعالى على الوالدين بالنسبة للأولاد، هذه الحقوق تدل عليها كذلك آيات كثيرة وأحاديث صحيحة..
الوقاية
وتابع قائلا: ومن هذه الآيات الكريمة قوله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكمْ وَأَهْلِيكمْ نَارًا وَقُودُهَا الناسُ وَالحِجَارَةُ عَليْهَا مَلائِكَة غِلاظ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفعَلونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، هذه الآية الكريمة هي الجامعة لكل الحقوق التي أوجبها الله سبحانه وتعالى على الوالدين نحو الأولاد، ولخصها القرآن الكريم كعادته في الإيجاز الجميل بالوقاية، بأن هذا الحق يقتصر وينحصر في أن الوالدين هما المسؤولان عن الأولاد، بأن يحافظوا على هذا الولد، ذكرا أو أنثى، حفاظاً شاملاً لدينه ولعقله ولروحه ولقلبه ولبدنه ولصحته، وقاية شاملة عن المحرمات، وقاية شاملة ودافعة نحو الاندفاع للواجبات، والآداب الطيبة، ولكل ما يجب أن يحمي الإنسان به نفسه، فيجب على الوالدين والمسؤولين أن يقوموا بهذه الحماية، فقد جمع الله سبحانه وتعالى هذا الأمر بالوقاية، بواو العطف، "قوا أنفسكم وأهليكم نارا" فالواجب واحد جامع بين هذه الوقاية، فمن لم يحمِ ولم يقِ أولاده وأهله من كل ما ذكر من المحرمات والمؤذيات للدنيا والآخرة فإنه قصّر في حق الله سبحانه وتعالى، وقصّر في حق أهله، وهو يحاسب عند الله سبحانه وتعالى، ويُسأل عن هذه الأولاد كما يُسأل عن نفسه وعما فعله وعما قام به خلال حياته ، فالسؤال وإن كان مترتباً على أمرين أساسيين ولكن غير قابل للفصل بينهما، فكما تجب عليك وقاية نفسك يجب عليك وقاية أهلك: الزوجة والأولاد والأحفاد وكل من يقع تحت مسؤوليتك أمام الله سبحانه وتعالى.
حرص الرسول على تربية الأمة
وأكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هذه التربية لأمته، وكذلك كان لأولاده وأحفاده فقد حدث يوما أن الحسن بن علي رضي الله عنهما وعليهما السلام أكل تمرة من الصدقة فرأه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كخ كخ. أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) فهذا أيضا دليل بأن على الوالدين أن يربوا الاولاد على حب الطيبات، والابتعاد عن المحرمات منذ الصغر، وأن لا يستهين بهذه المسألة سواء كان لنفسه أو لغيره، وأن أي لحم نبت من الحرام فالنار أولى به"، وحتى الآداب المطلوبة التي يجب على الطفل أو على الصغير ان يتعلمها علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قدوة لنا فقد روى البخاري ومسلم بسننهما عن أبي حفص عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أي ابن زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم أم سلمة فقال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) فقال أبو حفص، كان ذلك طعمتي أي صفة أكلي منذ أن سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام. فلا يجوز للوالدين أن يتركا أولادهما حينما يريا منه شيئاً يخالف الأدب في الكلام أو الأكل أو المشي أو التعامل، بل يجب على الوالدين أن يربيا الأطفال منذ الصغر على هذه الآداب العظيمة.
قصة لقمان
ورأى فضيلته ان سورة لقمان وقصة لقمان تدل على ذلك، حيث إن هذه القصة خلدها القرآن، وتدل على ما يحب على الوالدين من ان يقوما به أول ما يقومان به، وهو غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد، وربط الأولاد بالله سبحانه وتعالى، وزرع الخشية والمراقبة في نفوسهما، وهذا ما قاله سيدنا لقمان {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ۚ إِنَّ اللهَ لطِيفٌ خَبِيرٌ}، هذا دليل على غرس الإيمان بأن الله مطلع عليك وأن الله يراك في كل ما تفعل به، فليكن عندك الخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى، وإذا زرعت هذه الخشية وهذه العقيدة الصحيحة فإن ذلك حماية عظيمة لهؤلاء الأولاد، كما فعل ذلك سيدنا يعقوب مع سيدنا يوسف رباه على هذه العقيدة، وعلى هذا الخوف، وحينما عرضت هذه المرأة الجميلة، صاحبة المال والجاه، وهي سيدته، وغلقت الأبواب، وقالت هيت لك، حينئذ قال يوسف وهو لا يزال غلاماً {قَالَ مَعَاذَ اللهِ ۖ إِنهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثوَايَ ۖ إِنهُ لا يُفلِحُ الظالِمُونَ}.
هذه البداية الصحيحة لتربية الأولاد، ثم بعد ذلك التعليم على الأحكام الشرعية والواجبات من الصلاة والصيام، وهذا ما ورد في الأحاديث الصحيحة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم "مُرّوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع"، فحينما يبلغ الأولاد عشر سنوات حينئذ يجب على الوالدين أن يقوما بتعليمهما، وحثهما على الصلاة، بل الصلاة في المسجد والجمعة والجماعة، واذا امتنع فلا بد من التربية بكل الوسائل بما فيها الضرب التأديبي وليس الضرب للإيذاء كما يحدث من بعض الناس.
حقوق الله
وقال: إن هذه الحقوق هي من أعظم الحقوق، وهي ليست حقوقاً خاصة بالأولاد، وإنما هي حقوق الله سبحانه وتعالى على الوالدين، بأن يقوما بهذا الواجب، بل إنها حقوق المجتمع، وحق المجتمع على الوالدين، لأنه هذا يترتب عليه تربية الأجيال، فإذا لم نُرَب الأجيال الصالحة فإن ذلك يؤدي الى الفساد، فواجب كل جيل أن يقوم بتربية الناس المصطفين، الناس المختارين، كما يقول الله سبحانه وتعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الذِينَ اصْطفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، فإذا قصّر الوالدان هذا الحق فإنه يكون ايضا محاسباً أمام الله أولا ثم أمام المجتمع وأمام التاريخ، وأن كل ما يفعله الأولاد سيكون للولدين أثر سلبي أو أثر إيجابي، فمن الصدقات الجارية: الولد الصالح الذي يدعو لك أو يعمل عملاً صالحاً فإن الله سبحانه وتعالى يكتب لك بذلك الخلود.