المفهوم القرآني للأمانة ومقوماتها الأساسية
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ ، ان هذه الأية مهمة جدا، فهي تحدد هوية الإنسان و مهمته وتجدد مرتبته من بين المخلوقات، وهي آية التكليف والأمانة وهي أصل التكليف، فأنت إنسان مكلَف، وأنت المخلوق المكرّم وأنت الذي سخر له خالق الكون ما في السماوات والأرض، فيجب أن تعرف من أنت؟ لأنه من عرف نفسه عرف ربه، ويجب أن تعرف المهمة التي من أجلها خُلقت، ويجب أن تعرف الرسالة التي حملت ويجب أن تعرف الدار التي أنت عليها مقبل، ويجب أن تعرف الحساب الذي سوف تحاسب به، فهذه أسئلة خطيرة جداً.(النابلسي، 2017، ج10، ص138)
والأمانة أن يعرف الإنسان ربه، وأن يزكي عمله، والأمانة ألاّ يكون جهولاً لربه، وألاّ يكون ظلوماً لعمله، أما إذا كان ظلوماً جهولاً، فقد ضيع الأمانة واستحق المهانة، وشقي في الدنيا والآخرة، فكيف تزكي نفسك التي جُعلت أمانة عندك؟ وكيف تطهرها؟ وكيف تسعد بها؟ وكيف تسمو بها؟ ربنا عز وجل حينما حمّل الإنسان الأمانة أعطاه الوسائل التي يستعين بها وأعطاه المقومات، وإليكم هذه المقومات.
- المقوم الأول: تسخير الله للإنسان هذا الكون: الله عز وجل سخر للإنسان كوناً هو في الحقيقة مظهر لأسماء الله الحسنى ولصفاته الفضلى ومظهر لكمالاته، فالكون أول مقوم من مقومات حمل الأمانة، فيستحيل على الإنسان في الدنيا أن يرى الله لأن مادّيته لا تحتمل، فسيدنا موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف:143].
فإذا كان الإنسان في الدنيا لا يستطيع أن يرى الله عز وجل، فكيف السبيل إلى معرفته؟
السبيل أن يرى خلقه، فإذا نظرت في خلقه عرفته، فهل تريد أن تعرف الله عز وجل؟
انظر إلى جسمك وإلى أعضائك، وإلى أجهزتك، وإلى حواسك، وتأمل في طبيعة نفسك وفطرتك، ونظام التوالد، ونظام الزوجية، وانظر إلى طعامك وإلى أنواع الخضروات، وإلى أنواع الفواكه، وإلى البقول، وانظر إلى الماء الذي أنزله الله من السماء، فاهتزت به الأرض، وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، وفكّر في الهواء الذي تستنشقه، وفي الجبال، وفي الأنهار، وفي البحيرات، وفي البحار، وفي السهول، وفي أنواع الطيور، وفي أنواع الأسماك وفي أنواع المخلوقات وانظر إلى كل ما في الكون، قال الشاعر:
وفـــــي كــــــــلِ شـــــــــــــــــــيء له آيــــــــــــة
تــــــــــدل على أنــــــــــــــــه واحــــــــــــد
- المقوم الثاني: و العقل، فالعقل السليم: يستحسن الأمانة باعتبارها قيمة كبرى وضرورة عقلية للتعامل الإنساني في جميع شؤون الحياة، فالعقل هو المميز الجوهري للإنسان، وهو سرّ الإنسانية المؤهلة للتكليف وحمل الأمانة، فالعقل السليم يُقدر الأمانة؛ لأنه يميز بين طريقي الهداية والضلال بعد بيان الرسل لهما.(ابراهيم،2005، ص493)
وهذا العقل الذي أودعه الله فيه هو مناط التكليف، فلولا العقل لما كُلّف الإنسان، وهذا العقل يتوافق في مبادئه مع مبادئ الكون، ففي الكون نظام السببية، والعقل لا يفهم الشيء إلا عن طريق السبب، وفي الكون نظام الغائية والعقل لا يفهم الشيء إلا بغاية كافية لوجوده، والكون فيه تناقض والعقل يرفض التناقض، وللعقل مهمات محدودة فبإمكانه إذا نظر في الكون أن يحكم بوجود خالق هذا الكون، وبإمكانه إذا قرأ كتاب الله عز وجل أن يكتشف إعجازه فيحكم عندئذ أن هذا كلام الله عز وجل، ويستنبط أن الذي جاء بهذا الكتاب المعجز لابّد من أن يكون رسول الله،(النابلسي،2017، ج10، ص243) وكلما كان عقل الإنسان سليماً منسجماً مع فطرته كلما حرص على تحقيق الأمانة في حياته بمفهومها الشامل.
- المقوم الثالث: هو الشهوة فالله تعالى أودع فيك الشهوة، ويجب أن تعلم علم اليقين أن هذه الشهوات ما أودعت فيك إلا لترقى إلى الله عز وجل، فكيف ترقى إلى الله لولا هذه الشهوات التي أودعها الله فيك؟ كيف تحس أن الله يحبك إن لم يودع فيك شهوة تعاكسها؟، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾ [آل عمران:14].
فأودع فيك حب النساء، فكيف ترقى إلى الله عز وجل إن سرت مع هذه الشهوة؟، وذلك بالالتزام بأمانة التكليف بالحلال والابتعاد عن الحرام، وكذلك كافة الشهوات التي ركبها الله في الإنسان، فمثلاً أن نترفع عن المال الحرام وننفق المال الحلال في سبيل الله، فعن طريق شهوة المال مثلاً ترتقي مرتين: مرة صابراً عن الحرام، وترتقي مرة شاكراً لما وفقك الله من إنفاق في سبيله، فإذا أخذ الإنسان ما أبيح له يشكر فيرقى، وإذا ترك ما نهي عنه يصبر فيرقى.(النابلسي،2017،ج10، ص141)
- المقوم الرابع: هو الفطرة النقية: تنمو الأمانة في ظل التزكية والتثقيف وتنقص في ظل الإهمال والتكاسل، ويميل الناس فطرةً إلى تقدير الأمانة، وإجلال الأمناء في جميع المجتمعات.(ابراهيم،2005، ص293)
فالله عز وجل فطر الإنسان فطرة عالية نقية بيضاء ليلها كنهارها، فإذا انحرفت عن طريق الحق تشعر بالانقباض، وبوخز الضمير، وبالكآبة وكل الآلام التي يتحدث عنها علماء النفس ما هي إلا الفطرة التي خلقها الله عز وجل، فإذا حِدت عن منهج الله عز وجل، عذبتك فطرتك وأنت لا تدري، فدعك عن كل علم، إن أخذت ما ليس لك تشعر بضيق، وإن أسأت إلى والدتك تشعر بضيق، وإن ظلمت إنساناً تشعر بضيق، وإن أسأت إلى حيوان، تشعر بضيق ما هذا الضيق؟.
إنه لأمر الفطرة النقية لله عز وجل قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم:30].
- المقوم الخامس:هو حرية الاختيار، فالله عز وجل أعطاك قوة فيما يبدو، فبإمكانك أن تقوم وأن تسير، وأن تتحرك وأن تقول، وأن تفعل شيئاً، لكن لو كنت مقهوراً مجبراً، ولم تكن مخيراً لم تكن جنة، ولا نار، ولا حساب، ولا عقاب، ولا عذاب، ولا ثواب، ولا جزاء، ولا سيئة ولا حسنة، كل شيء يتعطل، ولو أن الله أجبر عباده على الطاعة، لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو أنه تركهم هملاً؛ لكان عجزاً في القدرة،(النابلسي،2017،ج10، ص142) ولذلك فحرية الاختيار من مقومات الأمانة.
المقوم السادس:هو الشرع: فالله عز وجل أعطاك اختياراً، وفطرة وشهوة، وعقلاً وكوناً، فأنت مخير ومشته، وذو فطرة عالية، وذو عقل، وهناك كون سخره الله لك، فهذه كلها من مقوّمات التكليف، لكن العقل قد يضل، والفطرة قد تطمس، فأنزل الله لك شرعاً وجعله ميزاناً على العقل والفطرة، فعندك كتاب الله يعرفك إلى ذاتك ويعرفك إلى ربك، ويطلعك على بداية الخلق، وهذه الآية من ذلك ويطلعك على ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، يجب أن تعرف من أنت؟ أنت إنسان، ولأنك إنسان قبلت حمل الأمانة، وحينما قبلت حمل الأمانة صار أمامك خياران لا ثالث لهما: إما أن تكون أعلى كل المخلوقات وإما أن يكون هذا الإنسان أسفل كل المخلوقات، فيمكن أن تكون أعلى مخلوقات الكون بأن تعرف الله وأن يصلح عملك، فإذا دنّس الإنسان نفسه كان أسفل سافلين.
لذلك يجب أن نعرف من نحن؟ ولماذا نحن في الدنيا؟ وماذا سيكون بعد الموت؟.
فقال تعالى: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:73].
ملاحظة هامة: استند هذا المقال بشكل كبير في مادته المرجعية على كتاب تفسير النابلسي للكاتب محمد راتب النابلسي.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وقصة آدم عليه السلام، دار ابن كثير، بيروت، 1442ه-2021م صص 1227--1235
محمد راتب النابلسي، تفسير النابلسي، مؤسسة الفرسان، عمان، الأردن، ط1، 1438ه-2017م.
عبد اللطيف إبراهيم، الأمانة في الإسلام، دار ابن الجوزي، ط1، 1426ه.2005م