رمضان شهر تنزيل الكتاب.. عظمة القرآن الكريم (1)
بقلم: د. علي الصلابي
أعظم ما وصف به شهر رمضان المبارك أن القرآن الكريم نزل فيه، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، والمقصود بالنزول هنا هو نزوله الأول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وذلك كان في ليلة واحدة، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]؛ وهي ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وتحدّث المولى عزّ وجلّ في كتابه عن عظمة القرآن الكريم، ومن خلال آياته الحكيمة نبيّن هذه العظمة من خلال مقالين متتاليين، وإليك التفصيل:
1ـ ثناء الله على كتابه:
أثنى الله تعالى على كتابه العزيز في آيات كثيرة، ممّا يدلُّ على عظمته؛ فقد وصفه «بالعظيم» في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقرآن الْعَظِيمَ *}[الحجر: 87].
ووصفه «بالإحكام» في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ*} [هود: 1].
وذكر هيمنته على الكتب السابقة في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وهذا الكتاب هو المهيمن الحافظ لمقاصدِ الكتب المنزلةِ قبله، الشاهد المؤتمن على ما جاء فيها، يُقِرُّ الصحيحَ فيها، ويُصحّحُ الخطأ.
ووصفه في أم الكتاب بأنه «عليٌّ حكيم» في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ*} [الزخرف: 4]. فهذه شهادةٌ من الله تعالى بعلوِّ شأن القرآن وحكمته، ولا ريبَ أنَّ من عظمة القرآن أنه «عليٌّ» في محلّه، وشرفه، وقدره، فهو عالٍ على جميع كتب الله تعالى، بسبب كونه معجزاً باقياً على وجه الدهر. ومعنى الحكيم: المنظومُ نظماً متقناً، لا يعتريه أيُّ خللٍ في أي وجهٍ من الوجوه، فهو حكيمٌ في ذاته، حاكمٌ على غيره،
والقرآن «حكيم» كذلك فيما يشتمل من الأوامرِ، والنواهي، والأخبار، وليس فيه حكمٌ مخالِفٌ للحكمة والعدل والميزان.
ومن ثناء الله تعالى على القرآن أن وصفه في ثلاث سور بأنه «كتاب مبارك». قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ *} [الأنعام: 92]. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [الأنعام: 155]. وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ *} الأنبياء: 50]. وبركة هذا الكتاب تمتدّ إلى يوم القيامة، وعطاؤه نامٍ لا ينفد .. يواكِبُ الحياة بهذا العطاء، ثم يأتي شفيعاً لأصحابه.
2 ـ عظمة مُنَزِّلِهِ سبحانه وتعالى:
العظيم: ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه عزّ وجلّ، والعظمةُ صفةٌ من صفاتِ الله، لا يقومُ لها خلق، والله تعالى خلق بين الخلق عظمةً يعظم بها بعضُهم بعضاً، فمن الناس من يعظَّم لمال، ومنهم من يُعَظَّم لفضلٍ، ومنهم يعظَّمُ لعلمٍ، ومنهم من يعظَّم لسلطانٍ، ومنهم من يعظَّم لجاهٍ، وكل واحد من الخلق إنما يعظم بمعنى دون معنى، والله عزّ وجلّ يعظّم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرفَ حقّ عظمة الله ألا يتكلّم بكلمةٍ يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله، إذ هو القائمُ على كلّ نفسٍ بما كسبت.
فالله تعالى هو العظيمُ المطلق؛ لأنّه عظيمٌ في ذاته وأسمائه وصفاته كلها، فلا يجوزُ قَصْرُ عظمته على شيءٍ دون شيءٍ منها، لأنَّ ذلك تحكم لم يأذن به الله. (عظمة القران الكريم ص 60)
فمن عظمته تعالى: أنّه لا يَشُقُّ عليه أنّ يحفظ السماواتِ السبع والأرضين السبع، ومن فيها، وما فيها، كما قال تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ *} [البقرة: 255].
وتتجلّى عظمةُ القرآن العظيمِ في عظمة مُنزِّله جلّ جلاله، ويتّضحُ ذلك جلياً في عِدّة آيات، منها: قوله تعالى: {الم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ *} [السجدة: 1 ـ 3].
وقوله تعالى: {حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [الجاثية, الأحقاف: 1 ـ 2].
3 ـ فضلُ جبريل الذي نزل بالقرآن:
نوّه الله تعالى بشأن من نزل بالقرآن على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جبريلُ عليه السلام، أمينُ الوحي الإلهي، وذكر فضله في عدة آيات، منها:
قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *} [النحل: 102].
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *} [الشعراء: 192 ـ 194].
وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بخمس صفات في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *} [التكوير: 19 ـ 21].
وهذه الصفاتُ الخمسُ تتضمّن تزكيةَ سندِ القرآن العظيم، وأنّه سماعُ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، وسماع جبريل الأمين من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علواً وجلالة. (عظمة القران الكريم ص 93)
4 ـ القرآن تنزيل رب العالمين:
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *} [الشعراء: 192 ـ 193].
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *} [القدر: 1].
وفيه ضميرُ العظمةِ، وإسنادُ الإنزال إليه تشريفٌ عظيم للقرآن.
فمن عظمة القرآن أنّه نزل من الله تعالى وحده لا من غيره، لنفع الناس وهدايتهم، فاجتمعت في القرآن العظيم فضائل، منها:
- أنه أفضل الكتب السماوية.
- نزل به أفضل الرسل وأقواهم، جبريل الأمين على وحي الله تعالى.
- نزل على أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
- نزل لأفضل أمة أخرجت للناس.
- نزل بأفضل الألسنة وأفصحها، وأوسعها، وهو اللسان العربي المبين.
ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: "الإيمان بالقرآن الكريم"، للدكتور علي الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: "عظمة القرآن الكريم"، لمحمود الدوسري.
المراجع:
- عظمة القرآن الكريم، محمود الدوسري، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 2014م.
- أركان الإيمان: الإيمان بالقرآن الكريم، علي محمد الصلابي.
- التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور.