البحث

التفاصيل

الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة

الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة

الشيخ الدكتور .  تيسير رجب التميمي

     وفي رمضان يكرمنا الله بشفيعين عظيمين ، فأولهما الصيام الذي هو ركن الإسلام ، وثانيهما تلاوة القرآن التي هي مناجاة الرحمن في رمضان وكل الأزمان ، فأما الصيام فبفضل الله شهدنا شهر رمضان المبارك فلْنصمه ، وكنت قد بينت كثيراً من أحكامه سابقاً في أحد مقالات شهر شعبان الماضي ، وأما القرآن الكريم فلْنغتنم تلاوته في أيام شهر رمضان التي تضاعف فيها العبادات أضعافاً عن غيره من الأوقات ، فقد قال تعالى { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } القدر 3 ، قال المفسرون أن العبادة والعمل الصالح فيها خير من العبادة في ألف شهر ، نقل ابن جرير الطبري قول سفيان الثوري عن مجاهد رحمهم الله جميعاً [ ليلة القدر خير من ألف شهر أي : عملها ، صيامها وقيامها خير من ألف شهر ] .

     أنزل الله عز وجل القرآن الكريم على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هداية لقلوب المؤمنين إلى الحق والعدل ، وشفاء لصدورهم من أمراض القلب ، قال تعالى { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا } الإسراء 82 ، وأنزله ليكون منهاج حياة للأمة فهو أصل الدين ومصدر التشريع ، فمن هذا الكتاب الرباني وآياته المحكمة يستمدون أحكام العقيدة والإيمان ، ومنه يأخذون الأخلاق السامية والمثل العليا والقيم الرفيعة والفكر المستنير ، ومنه يستنبطون الأحكام الشرعية العملية ويأخذون القوانين التي تنظم علاقاتهم وحياتهم ,

     آمن المسلمون بأجيالهم المتلاحقة بهذا الكتاب المكنون الذي اختصه ربنا جل في علاه بالنزول في أعظم الشهور وهو شهر رمضان المبارك الذي أظلتنا أيامه وغمرتنا نفحاته ، وكانت ثمرة إيمانهم الراسخ والْتزام أحكامه قيام دولة الإسلام وتمكين أمته ، فكانت لها السيادة والريادة والقيادة ، وأسهمت بوضوح في مسيرة الحضارة العالمية بصفحات مضيئة حملت الإنسانية إلى مرابع السعادة والنور ، فقد امتاز القرآن الكريم :

* بأنه كلام الله تعالى بلفظه ومعناه ، فهو ليس من قول جبريل عليه السلام ولا من قول محمد صلى الله عليه وسلم ، بل هو وحي من الله تعالى ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أمياً لا يعرف القراءة أو الكتابة أو الشعر قال تعالى { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } العنكبوت 48 ، وقال أيضاً { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } القيامة16- 19  .

* وبأنه عربي اللسان قال تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } الشعراء 192 - 195 ، فالمعهود في معجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام أن تكون من نوع الثقافة والفكر السائد في أقوامهم ، وإلاَّ لما كان للمعجزات أدنى حاجة أو تأثير ، والقرآن معجزة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاءت رسالته للعالمين جميعاً ، لكن مُبْتَدَأَها كان في العرب أرباب اللغة وأهل البلاغة وعذب الكلام ، فليس من المنطق أن ينزل بغير لغتهم قال تعالى { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } فصلت 44 ، وما ذاك إلاَّ ليتمكن الناس من فهمه وإدراك معانيه ومراميه ، والإيمان به وتبليغه إلى العالمين .

* ويمتاز القرآن الكريم أيضاً بأنه أعجز البشر أن يأتوا بمثله , فقد ارتقى في البلاغة إلى حد خارج عن قدرتهم جميعاً وبالأخص العرب مع كونهم أهلها وأربابها ، قال تعالى { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يونس 38 ، وقد سجل الله تعالى عجزهم هذا واستحالة نجاحهم في التحدي بقوله سبحانه { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } الإسراء 88 ، وصفة الإعجاز أكبر دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن هذا الكتاب رباني المصدر ، قال تعالى { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } النساء 82 ، وتتعدد صور الإعجاز فيه فأهمها البيان ، ثم اشتماله على قواعد التشريع وحقائق العلم ، ثم إخباره عن الغيبيات .

* ويمتاز أيضاً بأنه بلغنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع سوره وآياته وكلماته نقلاً بالتواتر في أصله وأجزائه وترتيبه ، فقد نقلته لنا عبر الأجيال جموع كثيرة غفيرة وألوف مؤلفة من الحفَّاظ ، لا يمكن أن يجتمع أفرادها على الكذب ، فهم متصفون بالثقة وبقوة ودقة الحفظ ، ابتداء من الصحابة الذين تلقَّوْه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم من التابعين ومن تبعهم إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين ، فكل سورة وكل آية وكل حرف فيه ثابت ثبوتاً قطعياً لا شك فيه يوجب الإيمان ، والتكذيب بشيء منه كفر يخرج من الإسلام .

* وبأن الله سبحانه تعهد بحفظه من التبديل والتغيير في نصه وفي رسمه ، قال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر9  فهو محفوظ من الزيادة فيه أو النقصان منه . ولأن القرآن الكريم معجزة فيجب بقاؤه بهذا النص وإلا ضاع الإعجاز ، أما الكتب السماوية الأخرى فوَكَلَ حفظَها إلى أتباعها ، قال تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ... } المائدة 44 ، وقد تحقق وعد الله بالعناية الفائقة التي نالها القرآن الكريم منذ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى زمان التطوّر المتسارع الذي نحياه فكثر حفظته وتطورت طباعته . ومن أبرز صور حفظه في العهد النبوي أنه كان صلى الله عليه وسلم يبلغ الصحابة ما ينزل من سور وآيات ويستحفظهم إياها ، ويتدارسها معهم تلاوة وتدبراً وتطبيقاً ، ومن الصور كذلك أنه اتخذ كُتَّاباً للوحي يدونون ما ينزل عليه من كلام الله تعالى فوراً في موضعه ، وبفضل العلماء الأفذاذ نشأت العلوم التي أسهمت في حفظه ، وكثر حفظته على مر العصور ، وتنوعت وسائل عرضه ونشره بين الناس في العالم أجمع .

* ويمتاز القرآن الكريم أخيراً بأنه مكتوب في المصاحف : ففي العهود اللاحقة للعهد النبوي بذل الصحابة جهداً فائقاً في حفظ القرآن الكريم ، فقد توفي صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ في السطور مخطوطاً على رقاع متفرقة في أيديهم ، ومحفوظ في صدورهم وقلوبهم . أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد بدأوا بجمعه في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه ، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه نسخ المصحف سبع نسخ جديدة وزعت على عواصم البلاد الإسلامية ، وبقيت النسخة الأصلية عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما ، وعلى الرغم من كثرة محاولات التلاعب بألفاظ القرآن الكريم ، إلاَّ أن الله تعالى يهيء لكتابه في كل عصر من يكشف هذه المحاولات ويحذر المسلمين منها ، ويكشف نوايا أصحابها وسوء طويتهم . لذا فإننا نهيب بالمختصين ولجان تدقيق المصاحف التابعة للوزارات والدوائر الرسمية وفي دور الطباعة والنشر والتوزيع ألاَّ تكتفي بالتدقيق قبل منح الإذن بطباعة المصحف الشريف ، بل أن تتابع ذلك بعد اكتمال الطباعة والتجليد وسائر المراحل الفنية اللاحقة قبل توزيعه ونشره بين المواطنين .

     ولعل أبرز خصائص القرآن الكريم أن الله عز وجل تَعَبَّدَنا بتلاوته ، وهذا التعبد له صورتان :

1- فقراءته ركن من أركان الصلاة تبطل بدونها ، قال تعالى { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } الإسراء 78 .

2- أما قراءته في غير الصلاة فهي من العبادات المندوبة التي تقرب المؤمن من ربه عز وجلّ وبالأخص في شهر رمضان المبارك ، فيستحب للمؤمن الإكثار من تلاوته ، قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } غافر 29-30 ، وقال صلى الله عليه وسلم { من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } رواه الترمذي ، وقال أيضاً { ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده } رواه مسلم . وقال أيضاً { لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار } رواه البخاري . وقال صلى الله عليه وسلم { خيركم من تعلم القرآن وعلمه } رواه البخاري . وقال صلى الله عليه وسلم { الماهر بالقرآن مع الكرام البررة  والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ويتعتع فيه له أجران } رواه مسلم .

     هذا في غير رمضان ، فكيف بتلاوته في رمضان ! شهر القرآن الذي تضاعف فيه الأجور وصالحات الأعمال ،     ولعظيم قدر تلاوة القرآن الكريم في هذا الشهر كان صلى الله عليه وسلم يعرضه فيه على جبريل عليه السلام ، وفي العام الذي توفي فيه عرضه عليه مرتين ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن { رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة } رواه البخاري .

     واقتدى سلف هذه الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا دخل رمضان اتخذوه فرصة لمدارسة القرآن والْتزام أخلاقه واتباع أحكامه ، ويقبلون على تلاوته في هذا الشهر المبارك فاستحقوا أن يكونوا أهل القرآن وخاصته من عباده ، أما هجر القرآن والاكتفاء بتعليقه في أهم زوايا البيت أو تزين الخزائن أو المكاتب به أو حتى كتابته بماء الذهب فهو أمر مذموم ولا يعبر عن تعظيم القرآن ، قال تعالى { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } الفرقان 30 ، وهجر القرآن الكريم يكون بترك الاهتمام به ، أو الإقلال من تلاوته أو عدم تدبره وتعقله ، أو إهمال تعاليمه وأحكامه .

     ولعل من أثمن آثار تلاوة القرآن الكريم أنه مناجاة لله سبحانه تترك نتيجتها في نفس القارئ وفي حياته ، فقد علمنا رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم في حالة الكرب أن نسأل ربنا عز وجل وندعوه ونرجوه بأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا ، فعلينا في هذه الأيام الفضيلة أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقتدي بأصحابه رضي الله عنهم بأن نحسن التعامل مع القرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً وعملاً  واستماعاً بإنصات ، وأن نستزيد من تلاوته ، فكما أن الصيام يشفع لمن أتقنه وصانه عن كل ما يضيّعه وما يتنافى مع حكمته وعظمته من اللغو والجهل والغضب وما شابه ذلك فيدخله الله الجنة من باب الريان وينجيه من النار ، قال ﷺ { ... وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ... } رواه البخاري ، والرفث هو الفحش في القول ، وذلك لأن الصيام يقوم على منازعة الهوى ومقاومة شيطان النفس لتصفو وتتهذب ، فكذلك القرآن الكريم يشفع لمن أتقنه وقرأه وعمل به وأحل حلاله وحرم حرامه واستقام على تعاليمه ، فيدخله الله الجنة وينجيه من النار ، قال صلى الله عليه وسلم { الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، قال فيُشَفَّعان } صححه الحاكم في المستدرك على شرط الإمام مسلم





التالي
نصف مسلمي بريطانيا يكافحون في رمضان بسبب الغلاء (تقرير)
السابق
اليمن.. دعوات لاستثمار الهدنة للتوصل إلى تسوية سياسية في مشاورات الرياض

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع