في ظلال مقاصد التوحيد (عناية العلماء بمقاصد التوحيد)
بقلم الدكتور انجوغو امباكي صمب – عضو الاتحاد
الحلقة الثالثة
حظيت مقاصد التوحيد بعناية كبيرة من علماء الإسلام، فشرحها بعضهم مع المقاصد العامة للتشريع، مثل ما فعل العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابيه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) و(شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال)، وفعله الشاطبي رحمه الله في كتابيه (الموافقات) و(الاعتصام)، وفعله ابن عاشور رحمهم الله في كتابيه (التحرير والتنوير)، و(مقاصد الشريعة الإسلامية).
ومن المتأخرين من أفرد مقاصد العقيدة بالشرح والبيان في مؤلفات خاصة، ومباحث مستقلة ضمن مؤلفات في العقيدة، مثل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في كتابه (التوضيح والبيان لشجرة الإيمان)، والشيخ عمر بن سليمان الأشقررحمه الله من المتأخرين في سلسلته المباركة حول أركان الإيمان الستة.
وكتب بعض طلاب الدراسات العليا رسائل الماجستير والدكتوراه وبحوثًا في المقاصد العقدية تحت عناوين مختلفة، ومنها على سبيل المثال: (مقاصد العقيدة في كتابات محمد المبارك)، للدكتورة حجيبة شيدخ من جامعة باتنة، و(مقاصد العقيدة ومقاصد الشريعة عند الإمام فخر الدين الرازي) للباحثة أمينة هموري، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط في المغرب، و (مقاصد العقائد عند الشيخ الطاهر بن عاشور) للباحث عبد الرؤوف تاج الدين صوان من جامعة الجزائر.
وفيما يلي أمثلة لمقاصد التوحيد عند ثلاثة من الأعلام النبلاء وهم: العز بن عبد السلام، وعبد الرحمن بن ناصر السعدي، وعمر بن سليمان الأشقر رحمهم الله جميعا.
- مقاصد التوحيد عند العز بن عبد السلام رحمه الله، من خلال كتابه ((شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال)).
إن كتاب ( شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال) للشيخ عز الدين بن عبد السلام عبارة عن تفعيل لعلم المقاصد وتطبيق لنظرياته على أعمال الجوارح وأقوال اللسان وأحوال القلوب، حيث إن لكل واحدة من المطالب الشرعية مقاصد خاصة تتعلق بها، فللعقيدة ثمرات، وللعبادات ثمرات، وللمعاملات ثمرات، وأهم هذه الثمرات كما يقول العز بن عبد السلام رحمه الله تلك المتعلقة بالعقيدة، لتعلقها بالإيمان بالله تعالى ولاشتمالها على أعظم مصالح الدين والدنيا في العاجل والآجل، وقد عقد رحمه الله فصلًا تمهيديًّا سادسًا بعنوان : (فصل في ثمرات المعارف وفوائدها ) : ومما جاء فيه قوله رحمه الله (( فثمرة معرفة الرحمن : أحوال بهية، وأحوال سنية، وأفعال رضية، ودرجات أخروية...، وثمرة معرفة الوعد والوعيد الاعتبار بما أصاب أهل العصيان والإقبال على الطاعة والإحسان، وثمرة معرفة خساسة الدنيا وفنائها احتقارها وعدم الالتفات إليها، وثمرة معرفة نفاسة الآخرة وبقائها الإقبال عليها والابتدار إليها))[1]، وفي الفصل التمهيدي التاسع منه ( في كيفية إثمار المعرفة للأحوال وما يترتب عليها ) فسر الآيتين الكريمتين (24 ـ 25 ) من سورة إبراهيم، تفسيرًا مختصرًا ولطيفًا، قال رحمه الله فيه : قوله تعالى {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ}: (( وهو معرفة الذات )) {ثَابِتٌ }: (( بالحجة والبرهان)) { وَفَرْعُهَا }: (( وهو معرفة الصفات)) {فِي السَّمَاءِ: ((مجدًا وشرفًا)) {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}: ((من الأحوال والأقوال والأعمال)) {بِإِذْنِ رَبِّهَا}: ((وهو خالقها، إذ لا يحصل شيء من ثمارها إلا بإذنه وتوفيقه ...))[2]، ثم ختم التفسير بما يجب على المؤمن تجاه هذه الشجرة المباركة شجرة الإيمان، فقال رحمه الله ((فطوبى لمن غرس هذه الشجرة بالنظرة[3]، وتفقدها بالتقوى، وحرسها بالاستقامة، ونفى عنها شعث المخالفة، وصانها من رياح الهوى، وخاف عليها من صواعق الشك وبوائق الشرك وجوائح سوء الخاتمة))[4].
وفي الباب الأول من الكتاب تحدث رحمه الله عن موضوع ( التخلق بصفات الرحمن على حسب الإمكان ) وهو موضوع أخلاقي متصل بالعقيدة، وقد تناوله المتكلمون والمربون، كل من ناحية تخصصه، وتقييده بقوله رحمه الله ( حسب الإمكان ) دفع لشبهة التشبيه التي من أجلها استنكر بعض أهل العلم هذه العبارة، كما أتى بأمثلة من الصفات الإلهية التي يمكن للإنسان أن يتخلق بها حسب الإمكان، مثل صفة ( الإحسان ) و ( النفع ) (والمغفرة ) و(والستر) وغيرها، ثم قال بعدها رحمه الله (( فمن تخلق بصفات ذاته صلح لولايته ورضوانه))[5]، ثم شرع رحمه الله في بيان كيفية التخلق بالصفات صفة صفة.
ثم تحدث عن مقاصد الأركان الأخرى وما يتعلق بها في فصول وأبواب متفرقة، فذكر في باب (المأمورات الباطنة): (الإيمان بالله والكفر بالطاغوت)، و(الإيمان برسل الله وكتابه)، و(الإيمان بالقدر)، و(محبة الله)، و(محبة الإيمان وكراهة الكفر والعصيان)، و(الشوق إلى الله وإلى رسالاته)، و(محبة رسول الله)، و(محبة الشهادة في سبيل الله)، و(محبة الطهارات)، و(محبة المهاجرين والأنصار)، و(محبة عليٍّ والحسن)، و (محبة أولياء الله والمؤمنين). [6]
- مقاصد التوحيد عند الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، من خلال كتابه (التوضيح والبيان لشجرة الإيمان).
يعد الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه من العلماء الذين لهم عناية خاصة بمقاصد التوحيد، فقد ذكرها وشرحها رحمه الله في مواضع مختلفة من مصنفاته، سواء في التفسير أو الحديث، فضلًا عن مصنفاته في العقيدة، وكتابه (التوضيح والبيان لشجرة الإيمان) مختصر مفيد، شرح فيه أصول الإيمان وأدلته وثمراته، في مقدمة وثلاثة فصول.
أما المقدمة فقد بين فيها موضوع الكتاب وأهم مباحثه ومطالبه، قال رحمه الله تعالى ((أما بعد: فهذا كتاب يحتوي على مباحث الإيمان التي هي أهم مباحث الدين، وأعظم أصول الحق واليقين؛ مستمدًا ذلك من كتاب الله الكريم -الكفيل بتحقيق هذه الأصول تحقيقًا لا مزيد عليه - ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ التي توافق الكتاب وتفسره، وتعبر عن كثير من مجملاته، وتفصل كثيرًا من مطلقاته، مبتدئا بتفسيره، مثنيًا بذكر أصوله ومقوماته، ومن أي شيء يستمد؟ مثلثًا بفوائده وثمراته، وما يتبع هذه الأصول))[7].
وفي (الفصل الأول: حد الإيمان وتفسيره)، ذكر تعريف الإيمان وبيان أركانه وأصوله، فقال في تعريف الإيمان ((أما حد الإيمان وتفسيره، فهو التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإيمان به؛ والانقياد ظاهرًا وباطنًا، فهو تصديق القلب واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب وأعمال البدن، وذلك شامل للقيام بالدين كله))[8]، ثم شرع في شرح عشرة أحاديث مختارة، كلها عن الإيمان وحقيقته ومقتضياته، ثم ختم بتقرير زيادة الإيمان ونقصانه.
وفي الفصل الثاني : (في ذكر الأمور التي يستمد منها الإيمان) استعرض فيه أحد عشرة من الأمور التي تقوي الإيمان وتزيده، وهي (معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد لله فيها) و (تدبر القرآن على وجه العموم) و (معرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله) و (معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة) و (التفكر في الكون، في خلق السماوات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان، وما هو عليه من الصفات) و (الإكثار من ذكر الله كل وقت، ومن الدعاء الذي هو مخ العبادة ) و (معرفة محاسن الدين) و (الاجتهاد في التحقق في مقام الإحسان) و ( التحقق بالخصال المذكورة في مطلع سورة المؤمنون ) و (الدعوة إلى الله وإلى دينه) و (توطين النفس على مقاومة جميع ما ينافي الإيمان من شعب الكفر والنفاق، والفسوق والعصيان ) [9].
وفي الفصل الثالث: (فوائد الإيمان وثمراته) [10]: ذكر أولًا ما للإيمان من الفوائد المختلفة والثمرات المتنوعة في الدنيا والآخرة، وهي ما أسميناها في هذا الكتاب ب ( مقاصد التوحيد) ، ولا مشاحة في الاصطلاح، فقال رحمه الله ((كم للإيمان الصحيح من الفوائد والثمرات العاجلة والآجلة، في القلب والبدن والراحة، والحياة الطيبة، والدنيا والآخرة، وكم لهذه الشجرة الإيمانية من الثمار اليانعة، والجني اللذيذ، والأكل الدائم، والخير المستمر، أمور لا تحصى، وفوائد لا تستقصى، ومجملها أن خيرات الدنيا والآخرة، ودفع الشرور كلها من ثمرات هذه الشجرة)) [11]، ثم استعرض بعد ذلك ستة عشر من الثمرات، وهي: (الاغتباط بولاية الله الخاصة) و (الفوز برضا الله، ودار كرامته) و (أن الإيمان الكامل يمنع من دخول النار، والإيمان - ولو قليلًا - يمنع من الخلود فيها) و (أن الله يدافع عن المؤمنين جميع المكاره، وينجيهم من الشدائد) و (أن الإيمان والعمل الصالح - الذي هو فرعه - يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفي دار القرار) و (أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص) و(أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم) و (أن الله يحبهم ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين)و ( أهل الإيمان والعلم يرفعهم الله في الدنيا والآخرة فهم أعلى الخلق درجة عند الله) و (حصول البشارة بكرامة الله، والأمن التام من جميع الوجوه) و (حصول الفلاح - الذي هو إدراك غاية الغايات ) و (الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات) و (أن الإيمان يحمل صاحبه على الشكر في حالة السراء، والصبر في حالة الضراء، وكسب الخير في كل أوقاته) و (أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم) و (أن الإيمان ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم من سرور وحزن وخوف وأمن وطاعة ومعصية وغير ذلك من الأمور التي لا بد لكل أحد منها ) و (أن الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في الموبقات المهلكة ) و (خير في نفسه، متعد خيره إلى غيره ).
(الحلقة الثانية: مقاصد التوحيد مفهومها وأهميتها)
يتبع ..
[1] شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، ص 16
[3] قدم رحمه الله النظرة في الذكر، بناء على قول الأشاعرة بأن أول واجب على المكلف هو النظر، والله أعلم .