الصيام وتصحيح الرؤية (2/1)
بقلم: د. محمد الصغير
في العام الثاني من هجرة رسول اللهﷺ فرض الله الصوم على أمته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية (183) من سورة البقرة، وفي السورة نفسها جاء فرض الجهاد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (216)
وهذا الترابط ظهر في التطبيق العملي مع بداية التنفيذ، حيث كانت أولى معارك الإسلام الموسومة بغزوة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة، حيث بدأ الصحابة صيام أول رمضان ومع انتصاف الشهر خرجوا للجهاد، وكأن الأول من الفريضتين مقدمة للثاني منهما وتدريب عليه، وليس هذا التلازم بين الجهاد والصيام فحسب، بل مع كافة أركان الإسلام، فإن الذي لا يقوى على الاستواء في صفوف الصلاة، لن ينتظم في صفوف القتال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}، والجهاد يقوم على ركنين:
{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ }، فمن منع الزكاة المفروضة لن يكون من المجاهدين المنفقين، والحج سماه رسول اللهﷺ جهادًا لا شوكة فيه، كما في حديث عائشة عندما قالت: يا رسولَ اللهِ هل على النِّساءِ مِن جِهادٍ؟ قال: “نعمْ، عليهنَّ جِهادٌ لا قِتالَ فيه؛ الحجُّ والعُمرةُ”. رواه أحمد.
أربعة أقسام:
وبعد هذا كله، لا أدري كيف جرى على ألسنة بعض الخطباء والدعاة، أن من حكمة مشروعية الصوم أن يشعر الغني بجوع الفقير، وإذا كان ذلك كذلك فلِمَ يصوم الفقير إذن؟
مع أن من انتحل هذه الفلسفة، خالف صريح آية الفريضة، التي جعلت ثمرة الصيام في تحصيل التقوى، هذه الدرجة العظيمة التي يندرج تحتها الإسلام كله، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله}، وقد ربط الله أوامره في القرآن بالتقوى؛ فيأمر بالتقوى قبل الأمر، ثم يأمر بالتقوى بعده أيضًا، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ}، ومن أجمع ما قيل في تفسيرها قول طلق بن حبيب حيث قال: التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاءَ رحمة الله، وأن تترك معاصي الله على نورٍ من الله مخافةَ عذاب الله.
وقسّمها علماء التزكية إلى أربعة أقسام: اجتناب ما نهى الله عنه في الظاهر أي: فيما يتعلق بالبدن، واجتناب ما نهى الله عنه في الباطن أي: فيما يتعلق بالقلب، وامتثال ما أمر الله به في الظاهر، وامتثال ما أمر الله به في الباطن، فهذه أربعة أقسام ولا يكون الإنسان متقيًا إلا إذا استجمعها.
وبالعودة إلى تراث فرسان معركة الوعي في العصر الحديث، وجدت الصورة عندهم مكتملة، وتصوّرهم لعبادة الصوم وتحقيق ثمرتها لا يشوبه كدر، وكالعادة هم ضد التيار العام، الذي حرَّف بوصلتها وصرَف وجهتها، فهذا شيخ العربية العلامة محمود شاكر في كتاب (جمهرة المقالات 2/937) يقول:
“يزعمون أن الفقير الصائم إذا عرف أنه استوى هو والغني في الجوع قنع واطمأنت نفسه، لا أدري أمِن شماتته بالغني حين جاع كجوعه، أم من حبه للمساواة في أي شيء كانت، وعلى أي صورة جاءت، ولا تزال تسمع مثل هذه الحكم، حتى كأن ربك لم يكتب هذه العبادة إلا ليعيش الفقير والغني كلاهما في سلطان معدته جائعًا وشبعانًا!
معاني الصيام
لقد صرفنا أعظم عبادة كُتبت علينا إلى معنى الطعام، نتخفف منه لتصحَّ أبداننا، ونبذله لنواسي فقيرنا، ونجتمع عليه لتأتلف قلوبنا، ولو أنصفنا هذه الكلمة المظلومة المعذبة لرأينا الصيام كما كُتب على أهل هذا الدين، طاعة خالصة بين العبد وربه، يأتيها الفقير الهالك ابتغاء رضوان الله، ويأيتها الغني الواجد ابتغاء رضوان الله، ويأتيانها جميعًا في شهر رمضان، ويأتيانها فرادى في غير رمضان، لا ليعيشا في معاني المعدة بالبذل أو بالحرمان، بل ليخرجا معًا سواء عن سلطان الطعام والشراب، وليخرجا معًا سواء من سلطان الشهوات، بل ليخرجا معًا سواء من سلطان كل نقيصة: من سلطان الخوف، فلا يخاف أحدهما إلا الله، ومن سلطان الرياء، فلا يعمل إلا لله”.
ومن المعين نفسه، كتب الدكتور عمر عبد الرحمن في مجلة (المرابطون عدد مايو 1990): “التقوى حساسية في الشعور ويقظة في الضمير، فالصيام يوصلنا إلى نهاية درجات التقوى بالزهد والورع، بعد أن أوصلتنا العبادات الأخرى إلى أوائل درجات التقوى بالاعتدال والاستقامة، وإذا كانت سائر الواجبات قد أثمرت من التقوى الكف عن الخبيث المحرم، فإن التقوى التي يثمرها الصوم أوسع وأعم، حيث يعلمنا كيف نكف عن بعض الحلال والمباح، وما هو من مقومات الحياة، فبداية الطهر ترك المحارم، ونهاية الطهر التحرر من عادة التَّرَف والعيش الناعم، حتى إذا جاء الغد وجدَّ الجد، ودعا الداعي إلى التضحية العظمى بالجهاد في سبيل الله، نكون قد أخذنا للأمر عُدته، حيث مارسنا الصبر وشدته، ويومئذ نرضى بالظمأ والنصب والمَخْمصة في سبيل الواجب، ولا نرضى أن نعود إلى التَّرَف والنعيم تحت الذل وفي قبضه الغاصب”.
هذه معاني الصيام التي تربى عليها الأوائل فحققوا ثمرته، وغُيّبت عن غفلة أو جهل، إلا عند أصحاب البصائر ونُزَّاع القبائل، الغرباء الذين يصلحون إذا فسدت تصورات الناس وتفسيراتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. محمد الصغير، عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الأمين العام للهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام.