البحث

التفاصيل

إلا من أتى الله بقلب سليم

الرابط المختصر :

إلا من أتى الله بقلب سليم

كتب: أبوجرة سلطاني – عضو الاتحاد

سألت نفسي مرات كثيرة: كيف أعرف أن قلبي سليم؟ وما العلاقة بين إخلاصي لله وسلامة صدري على الناس؟ وهل تكدر القلب على من غدر بك وفجر في خصومتك يفسد سلامته؟؟

فكرت مليا في معنى " القلب السليم". ما هو؟ وكيف هو؟ وما علاماته؟

واستعرضت شريط سيرتي مع الله ومع الناس في أعسر الظروف وفي أيسرها فاستوقفتني مشاهد كثيرة في محطات متباينة في حياتي. محطات لا عد لها ولا حد ولا حصر. ولكن خمس منها استوقفتني وما برحت خيالي:

1- سلامة صدر لأناس لا أعرفهم، سخرني الله لهم فقدمت لهم خدمات لم أكن انتظر من ورائها جزاء ولا شكورا؛ جمعتني بهم ظروف عابرة أو ساقتني إليهم الأقدار لأخدمهم ثم افترقنا من غير كلمة وداع. ولم نلتقِ بعدها أبدا..

2- وسلامة صدر لأناس قدموا لي خدمات - في ظروف صعبة - ولم أكن أتوقع منهم خيرا؛ فلما رأيت منهم يدا بيضاء عليّ في أيام حلكات غيروا رأيي فيهم بما رأيته منهم من معروف، فأيقنت أن المظاهر خداعة وأن الزمن كشاف، وما كل لماع ذهب، وما كل أبيض كافور.. فاشتراك الملح والسكر والكافور في البياض لا يجعل المذاق واحدا.  فشتان بين أبيض مالح وأبيض حلو وأبيض مر.. (والحديث قياس).

3- وسلامة صدر لصديق ظل معي يشجعني ويواسيني حين انفض الناس من حولي. وكان يقول لي: جمعنا الملح ولا يفرقنا سوى الموت.. وكان صادقا صدوقا حتى أفضى إلى ربه (رحمه الله).

4- وسلامة صدر لشباب من جيل "عقله في أذنية" يردد ما يسمع ولا يتبيّن الأنباء، فإذا مرت الأيام اكتشف أنه كان ضحية لعبة "تصفية حساب" تم إقحامه فيها، فاعتذر واستعتب وودّ لو استقبل من أمره ما استدبر. ولكن لات حين مناص.

5- وسلامة صدر لطلبة كثيرين درّستهم، فكان منهم الفطن الأريب والغافل المريب، والخفيف المحبوب والثقيل الموصوب، والراغب في طلب العلم والساعي لنيل الشهادة.. فكان لكل طالب حظه من التوفيق ونصيبه من الصحبة.. وبعد الفراق لم يبق من الذكريات سوى ما كان جميلا.. وتلك صورة مصغرة لرحلة الحياة؛ تدافع بين الأضداد يسقط السقيم ويثبت الصحيح وتمضي الحياة: " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".

فما أجمل أن تترك في مسيرة حياتك أثرا طيبا يتذكره من خالطك في مفصل من مفاصل الحياة (ولو في رحلة طائرة). وما أعظم أن يمن الله عليك بخلق قويم يغفر ويسامح ويتجاوز.. وبقلب سليم يسع الصديق والعدو. ويستقبل الصحيح والسقيم.. فيسمو ويتعالى ويحتسب كل شيء لله ولا يبيت صاحبه إلا على ذكر الله وشكره وخلوّ باله من كل ما يكدر صفو منامه ويقظته وصبره على أذى الناس..

كان ذلك بالأمس. أما عندما تقدم بي العمر فقد صار فهمي للحياة مختلفا عما كان عنه في عمر الشباب لشعوري أنني أتهيأ لاختبارات الفصل الأخير؛ فقد فهمت أن الحياة مدرسة مفتوحة يظل المرء فيها "تلميذا" يتلقى دروس "فقه الواقع" كل يوم وليلة حتى يعضّه الدهر بناب ويطأه بميسم فيخرج منها بدروس كثيرة ليست مدونة في مقررات المناهج التربوية.

منها درسان هما مفتاحا سعادة المرء في دنياه وهما سببا فوزه في أخراه إن شاء الله، فلا يليق بمن يحترم نفسه نسيانهما أو التفريط بهما او الغفلة عن مراجعتهما مادام حيا يرزق حتى يلقى ربه لا فاقدا ولا مفقودا ولا ضالا موهوما ولا شقيا محروما.

1- درس السعى إلى مرضاة الله وحده، وتجاهل المادح والقادح بيقين أن الله أعلم بحالك ممن مدحك لنوال عطية وممن قدحك لزوال نعمة.

2- ودرس إخفاء ما وفقك الله إليه من حسنات، لتحافظ على ما بينك وبين ربك بخبيئة، وعلى ما بينك وبين نفسك بسلامة صدر، وعلى ما بينك وبين الناس بحسن خلق، وعدم الرد على من أساء إليك، وتسليم أمرك لله، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا.

ومن علامات سلامة الصدر شعور الإنسان أنه مع الله وأن الله معه يسمع ويرى. فيرتقي كل يوم في منزلة أعلى بشرف "المعية" التي لا يجد حلاوتها ولا يعرف لذاذتها إلا من شرح الله صدره لحبه وملأ قلبه بنوره فطهره من الحقد والحسد.. فكان سليما. وطهر لسانه من قيل وقال.. فكان قويما. فلم يعد يعبأ بكلام الناس: مدحوه أو قدحوه.. فلا يحسد ولا يحقد ولا يبغض ولا يتتبع عورة ولا تهزه رياح المرجفين.

   - ومن علامة سلامة الصدر أن يكون القرآن دليلك فلا تضل.

   - ومن نعم الله على صاحب القلب السليم أنه يعيش في معية ربه فلا يذل.

ومن سلم صدره وفقه الله إلى إخلاص وجهه له فسعد في دنياه براحة بال. ونجا في أخراه بقلب سليم؛ فالإخلاص لله يجعل مرآة النفس صافية صقيلة تستأنس بكل جميل فتحبه وتعمل على تكثيره وتبتغيه للناس جميعا. وتزورّ من كل قبيح وتخشاه على تبديد وقتها في اللهاث وراء دنيا غرارة.. دنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب.

 

ومن سلامة الصدر جبر الخواطر لتجاوز المخاطر. وصلة الأرحام بوصل من قطعك وإكرام من وصلك. فعمرك في دنياك قصير فلا تقتله في تتبع عورات الناس. ورصيدك في بنك الحياة قليل فلا تسعى في إفلاسه ببيع آخرتك بدنيا غيرك؛ وانظر كيف تحضر جوابا لأربعة أسئلة ستطرح عليك يوم التغابن: عمرك فيمَ أفنيه؟ وشبابك فيمَ أبليته؟ وعلمك ما صنعت به؟ ومالك من أين جمعته؟ وفيمَ أنفقته؟

 

ويا فوز أصحاب القلوب السليمة الكاظمين الغيظ العافين عن الناس.. إذا أخلصوا وصوّبوا وعلموا أن العقبة كؤود والحمل ثقيل والناقد بصير.. والمنتهى إلى جنة عرضها السماوات والأرض. أو إلى نار وقودها الناس والحجارة: "وليس للمرء إلا ما سعى".

تقبل الله منا ومنكم وغفر لنا ولكم.


: الأوسمة



التالي
في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد الكفر بالطاغوت)
السابق
قيمة الحرية في القرآن الكريم

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع