البحث

التفاصيل

في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد التصديق بعالم الغيب والكشف عن أسراره العظيمة)

الرابط المختصر :

في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد التصديق بعالم الغيب والكشف عن أسراره العظيمة)

بقلم: الدكتور انجوغو امباكي صمب – عضو الاتحاد

الحلقة (12)

 الإيمان بما أخبر الله تعالى به أو أخبر به رسله عليهم الصلاة والسلام من أمور الغيب، يعد من مقومات الإيمان وخصائص التصور الإسلامي، لأن العقيدة الإسلامية وسط بين المادية المطلقة التي لا تؤمن إلا بالمحسوسات، والخرافة التي تسبح في عالم الأوهام والخيالات، قال تعالى { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[1].

 و اختلفت عبارات السلف في المراد بالغيب هنا، فقيل { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } : ((يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث))، وقيل (( ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن))، وقيل (( ما جاء من الله تعالى)) ،وقيل (( القرآن )) ، وقيل ((الإسلام))، قال ابن كثير رحمه الله (( فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به))[2] ، وإنما اقتصر على صفة الإيمان بالغيب لكون جميع إركان الإيمان داخلة فيه ومندرجة تحته، قال ابن عاشور رحمه الله (( فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسمون بالدهريين))[3].

ومن مقاصد التوحيد الجليلة الإيمان بما ثبت من جميع الأمور الغيبية، دون إنكار لشيء منها ولوكان غريبا في عقولنا ومداركنا، و لا بحث عن تفسير مادي لها لما لعالم الغيب وعالم الشهادة من الفروق الكبيرة، ولأن ذلك يذهب حلاوة الإيمان و يضعف اليقين، ويورث الشك في القلوب، قال البيهقي[4] رحمه الله (( باب الإيمان بما أخبر عنه، رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملائكة الله وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والحساب والميزان والجنة والنار وأنهما مخلوقتان معدتان لأهلهما وبما أخبر عنه من حوضه ومن أشراط الساعة قبل قيامها))[5].

  • الإيمان بالملائكة الكرام عليهم السلام ومعرفة وظائفهم .

من الغيب الواجب الإيمان به الملائكة الكرام عليهم الصلاة والسلام، وما ثبت من أسمائهم وصفاتهم ووظائفهم، قال البيهقي رحمه الله : ((وَالْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ يَنْتَظِمُ مَعَانِيَ أَحَدُهَا: التَّصْدِيقُ بِوُجُودِهِمْ، وَالْآخَرُ: إِنْزَالُهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَإِثْبَاتُ أنَّهُمْ عِبَادُ اللهِ، وَخَلْقُهُ كَالْإِنْسِ، وَالْجِنِّ مَأْمُورُونَ مُكَلَّفُونَ لَا يَقْدِرُونَ إِلَّا عَلَى مَا قَدِّرُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَالْمَوْتُ عَلَيْهِمْ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ أَمَدًا بَعِيدًا، فَلَا يَتَوَفَّاهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوهُ، وَلَا يُوصَفُونَ بِشَيْءٍ يُؤَدِّي وَصْفَهُمْ بِهِ إِلَى إِشْرَاكِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى جَدُّهُ، وَلَا يَدَّعُونَ آلِهَةُ كَمَا ادَّعَتْهُمُ الْأَوَائِلُ، وَالثَّالِثُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ مِنْهُمْ رُسُلَ اللهِ يُرْسِلُهُمْ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْبَشَرِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَتْبَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ مِنْهُمْ حَمَلَةَ الْعَرْشِ، وَمِنْهُمُ الصَّافُّونَ، وَمِنْهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ، وَمِنْهُمْ كَتَبَةُ الْأَعْمَالِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَسُوقُونَ السَّحَابَ، وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، أَوْ بِأَكْثَرِهِ ))[6]، قال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[7]، وقوله {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ...} : (( وأما الإيمان بالملائكة فهو : أن يؤمن بوجودهم، وأنهم معصومون مطهرون، وأنهم السفرة الكرام البررة، وأنهم الوسائط بين الله تعالى وبين رسله...)) [8].

وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}[9]، وقوله { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ ...}: الكفر بالملائكة هو إنكار وجودهم أو تكذيب ما جاء في الكتاب والسنة من أخبارهم وصفاتهم ووظائفهم، وفي حديث جبريل المشهور ((قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))[10].

والإيمان بالملائكة ركن محوري يربط بين جميع أركان الإيمان وينظمها في سلك واحد، وذلك لأن الإيمان بالغيب أساسه الوحي المنزل من عند الله تعالى، والملائكة هم الواسطة بين الله والأنبياء المرسلين عليهم السلام، قال الرازي رحمه الله (( فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم))[11]، وقال أبو زهرة رحمه الله ((فهذا تدرج قويم؛ فابتدأ بالإيمان بالله المنعم بكل شيء في هذا الوجود؛ ثم ثنى بالملائكة الأطهار وهم غيب لَا يرى ولا نعرف شيئًا عنهم إلا بالإخبار منه سبحانه، وهو الذي أمرنا بالإيمان بهم، فالإيمان بهم نوع من الإيمان بالله سبحانه، وكذلك الكتب والرسل))[12].

  • الإيمان بوجود الجن والشياطين  .

ومن الغيب الذي يجب الإيمان به وجود الجن والشياطين، وأنهم خلق من خلق الله تعالى، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فالأصل فيهم أنهم من عالم الغيب لكونهم مخفون عن أسماعنا وأبصارنا وحواسنا، إلا في حالات تشكلاتهم المادية، فحينئذ ترى صورهم وتسمع أصواتهم، قال تعالى {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [13]، (( وسمي الجن بهذا الاسم لاشتهارهم واختفائهم عن الأبصار، فكل شيء ستر عنك فقد جن عنك ))، وحقيقتهم كما يقول البيضاوي رحمه الله (( أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها))[14] .

أما الشيطان فهو علم على عدونا إبليس اللعين الرجيم، قال تعالى { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }[15]، وقال تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[16].

أما جنس الشيطان فقد جاء في المصباح المنير (( وفي الشيطان قولان، أحدهما : أنه من شطن إذا بعد عن الحق أو عن رحمة الله فتكون النون أصلية ووزنه فيعال، وكل عات متمرد من الجن والإنس والدواب فهو شيطان ))[17].

وقد ثبت وجود الجن والشياطين بالخبر الصادق في الكتاب والسنة، قال تعالى {وَالْجَآنَّ خلقناه من قبل من نّار السَّموم}[18]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خلقتْ الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم))[19].

والمقصد العام من خلقهم هو العبادة، فهم مكلفون مثل الإنسان، قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[20]، و يجازون على أعمالهم يوم القيامة، قال تعالى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }[21]، قال تعالى { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[22]، ومنهم المؤمن والكافر والصالح والطالح، قال تعالى { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... }[23].

(الحلقة (11) في ظلال مقاصد: التوحيد من مظاهر حفظ الفطرة)

يتبع ....

 

[1] سورة البقرة ، الآيات من 1 إلى 5

[2] تفسير القرآن العظيم ، 1/ 77

[3] التحرير والتنوير 1 / 230

[4] هو أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الإمام الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي الخسروجردي سمع الكثير ورحل وجمع وحصل...، وكان كثير التحقيق والإنصاف حسن التصنيف قال عبد الغفار في الذيل ، متبعا لسيرة العلماء قانعا من الدنيا باليسير متجملا في زهده وورعه...، توفي بنيسابور في جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. انظر : طبقات الشافعية ، لابن قاضي شهبة، 1 / 220

[5] الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، تأليف أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، ص 205  الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت 1401هـ

[6] شعب الإيمان، 1 / 296

[7] سورة البقرة، الآية 285

[8] لباب التأويل في معاني التنزيل، 1 / 219

[9] سورة النساء، الآية 136

[10] صحيح مسلم ، 1 / 36 ، برقم ( 1 )

[11] مفاتيح الغيب ، 7 / 107

[12] زهرة التفاسير، 3 / 1085

[13] سورة الأعراف، الآية 28

[14] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 5 / 251

[15] سورة الكهف، الآية 50

[16] سورة فاطر، الآية 6

[17] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، تأليف أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي،1 / 313، الناشر: المكتبة العلمية - بيروت

[18] سورة الحجر، الآية 27

[19] صحيح مسلم، 4 /2294

[20] سورة الذاريات، الآية 56

[21] سورة الأنعام، الآية 130

[22] سورة الأعراف ، الآية 179

[23] سورة الجن ، الآيات من 1 إلى 5





التالي
شهر رمضان
السابق
مهابة الفاروق رضي الله عنه في وسط المجتمع

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع