صياغة هذا العنوان قد تدعو الكثيرين إلى استنكاره من جهتين:
1– من جهة المضمون، حيث إني وضعت المبدأ الشهير والممقوت (الغاية تبرر الوسيلة) في صيغة تساؤل، بينما أهل المبادئ والفضائل لا يذكرونه إلا في سياق الإنكار والاستهجان.
2– من جهة التعبير، حيث حافظت على لفظ (تبرر)، و هو لفظ لا وجود له بهذا المعنى في اللسان العربي. وهذا الإنكار الثاني يختص به الحريصون على سلامة اللغة العربية، وعلى إبعاد الاستعمالات الصحفية والعامية والدخيلة عنها، أو على الأقل إبعاد هذه الاستعمالات عن الكتابات العلمية.
أما الاستنكار الأول، فهو موضوع هذا المبحث.
وأما الاستنكار الثاني، فعذري فيه، إني أريد معالجة كلمة سائرة، أصبحت كالمثل شهرة وصياغة.ففضلتُ أن أحافظ على العبارة، كما هي محفوظة ومتداولة. فذلك أدل على المقصود وأسرع في الإفهام. فلهذا لم أستعمل عبارة (تسوغ) أو (تجوز) بدل (تبرر).
وأنتقل إلى مضمون المسألة، مسألة: "الغاية تبرر الوسيلة”.
يذكر هذا المبدأ عادةً مقرونا بالرفض والإنكار، نظرًا لما ارتبط به من معاني الدناءة والقسوة والدموية، بفعل الممارسات التي تمت بمقتضاه، وبحكم التاريخ الذي رافق رواج هذا المبدأ.
وقد ارتبط هذا المبدأ بصفة خاصة، بالكاتب الإيطالي الشهير نيقولا مَكْيافيلي[1]، صاحب كتاب (الأمير) وهو الكتاب الذي أصبح إنجيل الحكام في أوروبا وغيرها منذ ظهوره إلى الآن.
ولشدة الارتباط بين مكيافيلي ومبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، أصبح كثيرٌ من النَّاس يعبرون عن مضمون هذا النهج "بالمكيافيلية”، وقد يقولون "الأساليب المكيافيلية”، إشارة منهم إلى ما عبر عنه مكيافيلي وتبناه في كتابه (الأمير)، من آراء تستخف بالقيم الأخلاقية، وتدعو إلى نقضها وتجاهلها، في سبيل المحافظة على الإمارة وعلى الحكم وأهدافهما، وفي سبيل سحق المخالفين المناهضين، وفي سبيل بناء عظمة الدولة وتوطيد دعائمها.
يقول الأستاذ فاروق سعد، ملخصًا هذا الجانب من الفكر السياسي عند مكيافيلي: "وانطلاقا من اعتبار مكيافيلي أن غاية السياسة هي المحافظة على قوة الدولة، والعمل على ازديادها، فقد عني في كتاباته بالوسائل التي تحقق قوة الدولة وتُمكنها من توسيع سلطانها في الخارج. والوسائل التي يقصدها مكيافيلي لم تكن تقوم على المقاييس المسلم بها، وسيما المقاييس الأخلاقية. ذلك أن المهم والأولى هو تحقيق الغاية المنشودة، ولا عبرة في الوسيلة الموصلة إليها. ومن هنا تبرير مدح مكيافيلي للحكام الذين يحققون تركيز سلطتهم وقوة دولهم، دون الأخذ بعين الاعتبار الوسائل التي لجأوا إليها لتأمين ذلك، ودون مراعاة عدم ارتباط هذه الوسائل بالقيم والمسلمات الأخلاقية .….. "[2].
حذر مكيافيلي من سوء مغبة مَن أسماهم "بالأمراء الخياليين”، الذين يتعلقون بالأخلاق الفاضلة التي تودي بحكمهم ودولهم، مثل الصدق والرقة و الوفاء والكرم. ونوه "بالأمراء الواقعيين”، الذين يحرصون أولًا وقبل كل شيء على النجاح والتفوق والنصر. ويتمكنون من تثبيت سلطانهم وهيبة دولهم، ولو اقتضى ذلك الغدرَ، ونكثَ العهود، والبطشَ، والقسوة.…. "[3].
يقول: "وعليه (أي الأمير) أن لا يكترث بوقوع التشهير بالنسبة إلى بعض المثالب، إذا رأى ألا سبيل له إلى الاحتفاظ بالدولة بدونها، إذْ أن التعمق في درس الأمور، يؤدي إلى العثور على أن بعض الأشياء التي تبدو فضائل، تؤدي إذا اتُّبعت إلى دمار الإنسان.."[4].
ويقول في موضع آخر: "الأمراء الذين قاموا بجلائل الأعمال لم يكونوا كثيري الاهتمام بعهودهم والوفاء بها، وتمكنوا بالمكر والدهاء من الضحك على عقول الناس وإرباكها، وتغلبوا أخيرًا على أقرانهم من الذين جعلوا الإخلاص والوفاء رائدهم"[5]. وينبه على أن الأمير القوي الناجح، لا يكفيه أن يكون أسدًا، بل لا بد أيضًا أن يكون ثعلبًا، ويؤكد "على أن أولئك الذين تمكنوا من تقليد الثعلب تقليدًا طيبًا قد نجحوا أكثر من غيرهم، ولكن الضرورة تحتم على الأمير الذي يتصف بهذه الصفة، أن يجيد إخفاءها على الناس، وأن يكون مُداهنًا كبيرًا، ومرائيا عظيما.."[6].
وقد قدم نموذجًا "مثاليًا” في هذا الباب، وهو البابا اليكساندر السادس الذي يقول عنه مكيافيلي: "لم يقم بأي عمل سوى خداع الآخرين، ولم يفكر بأي شيءٍ سوى ذلك. وكان يجد دائمًا الفرصة للنجاح في خداعه. ولم يكن ثمة من يفوقه مهارة في تقديم الوعود وإغداق التأكيدات، داعما إياها بالأيمان المغلظة، في الوقت الذي لم يكن هناك من هو أقل تمسكًا بها منه. ومع ذلك فقد نجح دائمًا في خداعه. إذ أنه كان يتقن هذه الطريقة في معالجة الأمور"[7].
غير أن العبارة الجامعة في كلام مكيافيلي، وهي التي أصبحت شعارًا مشهورًا يتبعه من شاء، هي قوله:"وفي أعمال جميع الناس، ولا سيما الأمراء – وهي حقيقة لا استثناء فيها – تبرر الغايةُ الواسطة"[8].
هذه هي العبارة التي شاعت ترجمتها العربية بصيغة (الغاية تبرر الوسيلة)، شاعت وهي محملة بمعاني البطش والغدر والنفاق والرياء والمراوغة والمخاتلة، باعتبار أن ميكافيلي مدح هذه الصفات، وأكد أنه لا بد للأمير من سلوكها إذا كان في ذلك إنجاح أعماله وتحقيق غاياته. فكان من الطبيعي جدًا أن يتلقى الناس هذا المبدأ بكثير من الاشمئزاز والإنكار، وخاصة من المسلمين ودعاة الإسلام.
ومن هنا دأب الكثير من الكتاب الإسلاميين على مهاجمة هذا المبدأ وإنكاره بصفة مطلقة، ودأبوا على تبرئة السلوك الإسلامي منه، ودأبوا على التأكيد أن الإسلام لا يقبل لتحقيق الغاية الشريفة إلا الوسيلة الشريفة، وأن الغاية السامية والجليلة لا تسوغ بحال من الأحوال، استعمال وسيلة غير مشروعة.
وهذا كلام صحيح في جملته، ولا سيما من الناحية الخطابية الوعظية. أما من الناحية العلمية والفقهية، فيحتاج إلى تدقيق وتفصيل، أو إلى تقييد وتخصيص.
إن المستقرئ للأحكام الشرعية، ولقواعد الاجتهاد عند فقهائنا، يجد من المسلمات التي لا غبار عليها، أن للمقاصد تأثيرًا على حكم الوسائل، وأن للغايات تأثيرًا على أحكام التصرفات. فهذا أصل لا غبار عليه. وإنما يقع التفاوت بين العلماء في مدى إعماله، وفي حدود ذلك وشروطه. وقد قدمت – غير بعيد– بعض ما يدل على ذلك وينص عليه من الأدلة ومن أقوال العلماء، وبينت أن أحكام الوسائل تتبع أحكام مقاصدها.
وإذا كان من غير الممكن قبول مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) على عمومه، وعلى علاته، وعلى ما شحن به من آراء وتطبيقات مكيافيلية، فإن من غير السليم أيضًا ما يتجه إليه كلام بعض الكتاب الإسلاميين، من إنكار لكل تأثير للغايات على أحكام الوسائل، مما يؤدي إلى جمود في الفكر والعمل، بل قد يؤدي بالمسلمين إلى تفويت الكثير من مصالحهم المشروعة. فيجب أن نحذر من تأثير رد الفعل، وأن نحذر الإفراط في مثالية ساذجة تشل أفكارنا وأعمالنا، مثلما نَحذر النموذج المكيافيلي والبيئة التي أفرزته، وأن نلتمس الحق والصواب، ونتمسك بهما. وحبلنا المتىن في هذا المسلك هو المنهج العلمي النزيه، الذي لا يخاف في الله لومة لائم.
يجب أن نتبين أولًا أن ما اعتبره مكيافيلي غايات نبيلة ومقاصد جليلة، لا يُعد عندنا غاية معتبرة بالمرة، أي ليس غاية مشروعة. فليس من غايات المسلمين، وليس من غايات الحكم عندهم قهر الشعوب، ومحق المعارضين، وفرض هيبة ظالمة على الجمهور، وعلى الحكام المجاورين. وبعبارة أخرى: الغاية عند مكيافيلي هي أن تكون كلمة الأمير ودولته هي العليا، بينما الغاية عندنا هي فقط أن تكون كلمة الله وشريعته هي العليا.
وكلمة الله لا يمثلها لا الأمير المسلم ولا جيشه ولا دولته. كلمة الله هي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بينما مكيافيلي يضع في هذه المنزلة الأمير ومصلحته، وقوته وانتصاره. وهكذا يختلف مفهوم الغاية ومفهوم الوسيلة اختلافًا تامًا وأساسيًا.
وإذا كانت غاية الغايات عند المسلمين في هذه الدنيا، هي أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن ينعم الناس بها، فإن كلمة الله قد تضمنت كل مصالح العباد، وتضمنت أسمى مراتب سعادتهم، وقد بينتُ ذلك في المعيار الأول من معايير الترجيح بين المصالح.
فلو قلنا نحن المسلمين (الغاية تبرر الوسيلة)، فإن الغاية عندنا ليست هي الغاية عند ميكافيلي وأهله.فهذا أولا.
وإذا اتضح هذا على وجه الإجمال، أقول:
إن الغايات التفصيلية لحياة المسلم ولكافة أفعاله، إنما تستمد مشروعيتها من الشرع. وكذلك الوسائل التي يسلكها، للشرع فيها حكمه وهديه. ومن حكمه وهديه أن بعض الوسائل غير المشروعة في الأصل، يمكن أن تباح، وأن تأخذ حكم المشروعية بالنظر إلى غاياتها المطلوبة بها. ولذلك حدوده وضوابطه.
وأبدأ أولًا بعرض بعض الأمثلة.
ثبت في الصحيحين، وفي غيرهما من كتب الحديث والسيرة وأسباب النزول، أن الصحابة، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصروا بني النضير من يهود المدينة، اعتصم هؤلاء داخل حصونهم. فعمد الصحابة إلى قطع بعض نخيلهم وتحريقه، لما في ذلك من إضعاف لمعنويات العدو. فأفسدوا من ذلك بعض النخلات، قيل: اثنتين، وقيل ستًا. فقال اليهود: يا محمد، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح؟ أفَمِنَ الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض؟.
وكأني باليهود يريدون بهذا الكلام شل حركة المسلمين وإعجازهم عن المواجهة، وعن أسباب النصر، بينما يستبيحون لأنفسهم كل شيء ويسلكون لحرب المسلمين كل سبيل { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].
وحتى يكون الحكم واضحًا فيما فعله المسلمون بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يكون لكلام اليهود أي تأثير على المسلمين، أنزل الله تعالى قوله:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أصولهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].
قال العلامة ابن عاشور: "والمعنى: أن ما قطعوا من النخل، أريد به مصلحة إلجاء العدو إلى الاستسلام، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وإذلالهم… وأن ما أُبقي لم يقطع، في بقائه مصلحة، لأنه آيلٌ إلى المسلمين فيما أفاء الله عليهم. فكان في كلا القطع والإبقاء مصلحة. فتعارض المصلحتان، فكان حكم الله تخيير المسلمين”.
قال:” ومن هذه الآية أخذ المحققون من الفقهاء أن تحريق دار العدو وتخريبها وقطع ثمارها جائز ، إذا دعت إليه المصلحة المتعينة"[9].
فالقيام بأعمال الإتلاف والإحراق والتخريب، هو إفساد في الأرض، لا يحبه الله ولا يرضاه. ولكنه سبحانه أذن فيه إذا كان عقوبة مستحقة، ترمي إلى ردع المحاربين من الخونة المتآمرين، وإلى القضاء على كيدهم ودسائسهم بعد أن ظهرت وانفضحت. وفي هذا كله تمكين لدين الله وإعلاء لكلمته، فلأجل هذه الغايات جاز ما ليس جائزًا في الأصل، وساغت الوسيلة بالنظر إلى الغاية.
وقد وقع اللجوء إلى هذا التدبير مرات قليله جدًا في العهد النبوي، مما يؤكد أنه تدبير عرَضي استثنائي على خلاف الأصل. وقد ساق ابن تيمية الجد، بعض الأحاديث في الموضوع، وترجم عليها بقوله: "باب الكف عن المَثُلة والتحريق وقطع الشجر وهدم العمران، إلا لحاجة ومصلحة"[10].
وقد استشكل بعض العلماء ما ظنوه من تعارض بين بعض الأحاديث التي جاء فيها القيام بالتحريق والتخريب ضد العدو، وبين ما قاله أبو بكر الصديق لأحد أمرائه. فقد روى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق، بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان أميرَ ربع من تلك الأرباع… فكان مما قال له: "وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأةً ولا صبيًا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاةً، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة. ولا تحرقن نخلًا، ولا تفرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن"[11].
فقد ظن الشوكاني أن ما قاله أبو بكر رضي الله عنه، معارض لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:"ولا يخفى أن ما وقع من أبي بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "[12].
والحقيقة أن لا تعارض هنالك؛ ذلك أن ما ثبت الإذن النبوي فيه من قطع وحرق، إنما هو تدبير استثنائي يجوز اللجوء إليه عند الاقتضاء. والأصل أن ذلك إفساد لا يجوز. فإذا قدر أولو الأمر الحالة، ورأوا ضرورة اللجوء إليه فعلوه أو أذنوا به، وإلا فلا. فأبو بكر رضي الله عنه أوصى أميره بما الأصل الذي لا يعدل عنه إلا لسبب يحتم ذلك، وبقدر محسوب[13].
ومن أمثلة هذا الباب أيضًا: جواز الكذب في بعض المواطن، وفي مقدمتها الحرب. وقد صح في الحديث "الحرب خدعة"[14].
وجاء في الحديث عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: "لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها"[15].
ولا يخفى على أحد ما جاء في القرآن والسنة من الوعيد والتشديد في شأن الكذب. ومع ذلك، فإن الشرع أذن فيه، في حالات استثنائية محددة. بل من العلماء من يرون ـ بناء على ذلك ـ أن الكذب قد يكون واجبًا في بعض الحالات.
ومن الحالات التي اعتبر فيها ابن عبد السلام الكذب واجبا: أن يختبئ عند أحد شخص بريء معصوم الدم، هربًا ممن يريد قتله، أو قطع يده ظلما. ومنها أن تكون عند الإنسان وديعة لأحد فيأتي ظالم يسأل عنها ليغتصبها ، قال:"فيجب عليه أن ينكرها، لأن حفظ الودائع واجب، وإنكارها هاهنا حفظ لها، ولو أخبره بها لضمنها، وإنكارها إحسان..”. قال "والتحقيق في هذه الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذونًا فيه، ويثاب على المصلحة التي تضمنها، على قدر رتبة تلك المصلحة من الوجوب في حفظ الأموال والأبضاع والأرواح، ولو صدق في هذه المواطن لأثم إثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد"[16].
ومن الوقائع التي أذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، ما رواه عبد الرزاق في مصنفه، عن أنس بن مالك، في حديث طويل ملخصه: أن الصحابيَّ الحجاجَ بنَ عِلاط لما أسلم التحق بالنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يعلم أحد بمكة إسلامه وهجرته. وشهد مع الرسول والمسلمين فتح خيبر. وبعد ذلك استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يأتي أهلَه قصد الإتيان ببعض ماله، وكان الرجل صاحب ثروة، وكان يستخرج المعادن. واستأذن في أن يكذب ليخلص ماله، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى زوجتَه وأخبرها أن محمدًا وأصحابه قد انهزموا في خيبر، "وأن محمدًا قد أُسِرَ وتفرق عنه أصحابه"[17]، وطلب منها أن تجمع له أمواله ليذهب فيشتري من غنائم المسلمين عند يهود خيبر، فجمعت له ما طلب. ثم مر على العباس بن عبد المطلب – وكان قد فزع فزعا شديدًا من الخبر الكاذب الذي تناقله المشركون عن الحجاج بن علاط – فأخبره أن رسول الله بكل خير وأنه فتح خيبر، وطلب منه أن يكتم عنه ثلاثة أيام، حتى ينصرف ويأمن من قريش، ففعل. وعاد الرجل إلى المدينة في أمان، وترك المشركين في فرح عظيم، وترك مسلمي مكة في حسرة وألم. وبعد ثلاثة أيام كشف العباس حقيقة الأمر، فتبادل المسلمون والمشركون الحالة التي كانوا عليها بعد خبر الحجاج[18].
قال ابن القيم وهو يعدد الأحكام الفقهية المستنبطة من فتح خيبر: "ومنها: جواز كذب الإنسان عن نفسه وعن غيره، إذا لم يتضمن ضررَ ذلك الغير، إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين، حتى أخذ ماله بمكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب. وأما ما نال مَنْ بمكة من المسلمين، منَ الأذى والحزن، فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولا سيما تكميل الفرح والسرور، وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب. فكان الكذب سببًا في حصول هذه المصلحة الراجحة"[19].
ومن هذا الباب أيضًا أن الله تعالى حرم الرشوة فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أموالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أموال النَّاسِ بِالْإثم وَأَنْتُمْتَعْلَمُونَ } [البقرة: 188]. وجاء في عدة أحاديث نبوية لعنُ الراشي والمرتشي والرائش بينهما[20]، وهو الوسيط. ومع هذا فقد ذهب عدد من العلماء إلى أن صاحب الحق، إذا كان حقه معلومًا، وتعذر عليه الحصول عليه إلا ببذل رشوة، جاز له بذلها[21]. وأما الآخذ فلا تجوز له بحال، وهو ملعون آكل للسحت.
وكذلك من نزلت به مظلمة محققة، ولا سبيل إلى دفعها إلا ببذل الرشوة جاز له بذلها ودفع الظلم عن نفسه. وفي الحالتين، لا يجوز الإرشاء إلا بعد استنفاد الوسائل الممكنة لتحصيل الحق، أو لدفع الظلم.
وقال شيخنا العلامة عبد الله بن الصديق – رحمه الله — :"الرشوة المحرمة هي التي تعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل. أما من دفع مالًا ليصل إلى حقه، أو ليرفع ظلمًا نزل به، فلا حرمة عليه في دفع المال ولا إثم. وإنما يأثم الآخذ فقط. هذا نصَّ عليه جماعة من العلماء، منهم ابن حجر في كتابه الزواجر (الحاوي: ص5).
وقد أنكر الإمام القاضي محمد بن على الشوكاني جواز الإرشاء ولو لنيل حق أو دفع ظلم، واعتبر أن هذا تخصيص للأحاديث بلا دليل. قال رحمه الله: "والتخصيص لطالب الحق، بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم، لا أدري بأي مخصص؟ فالحق: التحريم مطلقًا، أخذًا بعموم الحديث. ومن زعم الجواز في صورة من الصور، فإن جاء بدليل مقبول، وإلا كان تخصيصه ردًا عليه، فإن الأصل في مال المسلم التحريم"[22]
وهذا التشدد والورع، لا يسعنا إلا أن نجلَّه ونكبره في أحد قضاة الإسلام العظام. وقد بلغ من ورعه وتشدده، أنه لما ولي القضاء، امتنع نهائيًا عن قبول الهدايا، حتى ممن كان يتهادى معهم قبل ولايته القضاء. بل قطع التهادي حتى مع أقاربه…[23].
أما بيان المخصص للأحاديث الناهية عن الرشوة فهو ما يلي:
1– قوله تعالى: { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أموال النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، ففي الآية تعليل صريح للنهي عن الإدلاء إلى الحكام بالرشاوى، وهو التوصل إلى أكل أموال الناس ظلما. وهذا لا ينطبق على من يدلي برشوة لنيل حقه المعلوم، بينما آخذ الرشوة آخذٌ لمال بغير حق، فيبقى في حكم التحريم واللعن.
2– قد علمنا في أمثلة كثيرة – بعضها تقدم ذكره – أن ما حرم للذريعة يباح عند الحاجة الراجحة، لا سيما ما يُدخل على الناس ضررًا وحرجًا. والرشوة إنما حرمت سدًا لذريعة التحيز في الأحكام وما ينتج عنها من ظلم وغصب. وفي موضوعنا ـ وهو الترخيص لصاحب الحق ـ تتحقق الحاجة، وينتفي الظلم والغصب.
3– ورأَيْنا على وجه الخصوص، كيف أذن النبي صلى الله عليه وسلم للحجاج بن علاط أن يكذب – وقد نال بكذبه من رسول الله ومن المسلمين – لأجل أن يستخلص ماله.
فلا أقل من أن نقيس مسألتنا على هذه، وهو قياسُ أولى، باعتبار أن تحريم الكذب أشد من تحريم الرشوة، وباعتبار أن الكذب الذي أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، كان فيه شيء من الأذى للغير. أما مسألتنا فليس فيها ضرر على أحد.
ومن أمثلة هذا الباب أيضًا الغيبة، وهي محرمة بنصوص القرآن والسنة، وهي من الكبائر. ونصوصها غنية عن الذكر. ومع ذلك، فقد جاء في النصوص أيضًا ما يسمح بها إذا كان القصد مشروعا ومحققا لمصلحة مشروعة.
فمن ذلك ما جاء في حديث فاطمة بنت قيس، لما طلقها زوجها ثلاثًا وانقضت عدتها. قالت رضي الله عنها: "فلما حللت ذكرت له (أي لرسول الله) أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم، خطباني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه[24]، وأما معاوية فصعلوك لا مال له. انكحي أسامة بن زيد…"[25] الحديث.
قال العلامة ابن دقيق العيد: "وفي الحديث دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة، ولا يكون من الغيبة المحرمة. وهذا أحد المواضع التي أبيحت فيها الغيبة لأجل المصلحة"[26].
والمواضع التي يشير إليها ابن دقيق العيد، عدَّ منها النووي ستة مواضع هي:
1– التداعي والتظلم عند الحكام.
2– ذكر صاحب المنكر بمنكره قصد الاستعانة على تغيير المنكر.
3– الاستفتاء عند العلماء.
4– تحذير المسلمين من الآفات والشرور، حتى لا يقعوا فيها وفي حبائل أصحابها.
5– ذم المجاهر بفسقه وبدعته.
6– ذكر الإنسان بلقبه وصفته، قصد التعريف، كالأعمش والأعرج.
وذكر أن الغيبة تكون واجبة في بعض هذه المواضع، كتجريح الرواة والشهود والمصنفين[27]. ومن تراجم الإمام البخاري في كتاب الأدب من صحيحه: "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب”، وفيه حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل عليه ألان له الكلام. قلت (أي بعد خروج الرجل): يا رسول الله، قلتَ الذي قلت، ثم أَلَنْتَ له الكلام ؟ !
قال: أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس، اتقاء فحشه.
وفي رواية الموطأ: "إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره”.
والذي يتحصل من كل ما سبق، هو أن الغاية المقصودة، لها تأثير على حكم الوسيلة المتخذة لتحقيقها. وقد رأينا هذا مطردًا في أمثلة كثيرة. رأينا في مبحث الذرائع كيف أن الوسائل المشروعة في الأصل، تصبح محرمة أو ممنوعة، عندما تفضي بشكل محقق أو غالب إلى المفسدة. ثم رأينا في مبحثنا هذا، أن الوسائل المحرمة في الأصل، قد تصبح جائزة مأذونة، بالنظر إلى الغاية المطلوبة من ورائها.
وهكذا يمكننا القول:
إن الغاية المعتبرة شرعًا، تُسَوِّغ الوسيلة المحظورة في الأصل، وذلك في الأحوال الثلاثة الآتية:
1– حالة الحرب، والحرب خداع وصراع. والمقصود بالحرب هنا: الحرب المشروعة والرامية لغايات مشروعة عادلة، تتضمن إعلاء كلمة الله وحكمه.
2– استخلاص الحقوق المستحقة شرعًا، و المعلومة بشكل لا نزاع فيه.
3– التخلص من الظلم والعدوان.
على أن اللجوء في هذه الحالات إلى استعمال وسائل محظورة في الأصل ، لا بد فيه من مراعاة الشروط الآتية:
1–أن يقع استنفاد الوسائل المشروعة أو تعذرها.
2–أن تستعمل الوسيلة المحظورة بالقدر اللازم دون تجاوزه.
3–ألا يكون في ذلك ظلم لأحد.
4–ألا يكون في ذلك مفسدة أعظم.
5–ألا يكون في ذلك غدر ولا نقض لعهد.
وفيما يخص هذا الشرط الأخير، فقد مر بنا غير بعيد قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ إن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
فيجب إعلام العدو بوضع حد للعهد الذي بيننا وبينه. ولا تجوز مباغتته غدرًا. { إن اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } [الأنفال: 58].
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره. ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة"[28].
ومما يجب الوفاء به اليوم، إذا التزم به الجميع، بعض الاتفاقيات الدولية التي يدخل فيها المسلمون، والمتعلقة بشؤون الحرب، كمعاملة المدنيين والأسرى والجيران… {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]
***********
من كتاب (نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية) — ص429 – 443 - الدكتور أحمد الريسوني
هوامش
[1]- نيقولا مكيافيلى — NiccolaMacchiavelli ولد و مات بجمهورية فلورنسا بايطاليا ( 1469 –1527 ) عمل في الوظائف السياسية ، ثم أبعد من مهامه بعد سيطرة أسرة المديشي على الحكم في فلورنسا . من مؤلفاته : ( المطارحات ) و (الأمير )
[2]- تراث الفكر السياسي قبل (الأمير) وبعده ، بحث ملحق بكتاب (الأمير) ص 247.
[3]- انظر: الأمير : 135 – 137.
[4]- الأمير 137.
[5]- نفسه: 147.
[6]- الأمير : 149.
[7]- الأمير : 149.
[8]- الأمير : 150 – 151
[9]- التحرير والتنوير 28⁄76
[10]- انظر : نيل الأوطار 7⁄248.
[11]- الموطأ 2⁄448.
[12]–نيل الأوطار: 7⁄252.
[13]- وانظر حوارا فقهيا دقيقا ومفصلا في الموضوع . بين أبي إسحاق الفزاري والأوزاعي ، بالملحق 2 ، لكتاب السير ، لأبي إسحاق الفزارى ص354 – 357.
[14]- مسلم عن أبي هريرة : باب جواز الخداع في الحرب.
[15]- ـ رواه أحمد ومسلم وأبو داود. (نيل الأوطار 7⁄255).
[16]- قواعد الأحكام 1÷96−97.
[17]- هذه الزيادة من رواية اعتمدها صاحب زاد المعاد : 3/337، وانظر القصة بمزيد من الإضافات في سيرة ابن هشام 3÷1173−1175.
[18]- انظر مصنف عبد الرزاق 5÷466−469.
[19]- زاد المعاد : 3⁄350.
[20]- انظر منتقى الأخبار، باب نهي الحاكم عن الرشوة واتخاذ حاجب لبابه في مجلس حكمه.
[21]- انظر : نيل الأوطار 8÷268−269 والحادي في فتاوى الحافظ أبي الفضل عبد الله الصديق الغماري ص5
[22]- نيل الأوطار: 8⁄268.
[23]- انظر: نيل الأوطار 8⁄269.
[24]- كناية عن كثرة ضربه لزوجاته.
[25]- رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد.
[26]- إحكام الأحكام، شرح عمدة الأحكام 4⁄57.
[27]- انظر شرحه لصحيح مسلم : 16÷142−143.
[28]- رواه مسلم من حديث أبي سعيد، باب تحريم الغدر.