البحث

التفاصيل

صَلاحُ الدِّين الأَيُّوبي: من التَّوحيد إلى التَّحرير، ومن الاجْتِهَاد إلى الجِهَاد"

صَلاحُ الدِّين الأَيُّوبي: من التَّوحيد إلى التَّحرير، ومن الاجْتِهَاد إلى الجِهَاد"

بقلم: أ. د. علي محيى الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

ونائب رئيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .....وبعد

فإن شخصية بطل الإسلام والمسلمين ( صلاح الدين الأيوبي ) ستظل في حاجة ماسة إلى دراستها وتحليل عناصرها للإفادة منها في مسيرتنا اليوم التي هي أشبه ما تكون بالبارحة ، وستظل ذكراه عطرة فواحة محببة لدى المسلمين لا يزيدها كر السنين إلاّ تألقاً وعبقاً ، وإنني أعتقد أننا نحن المسلمين ما قدّرنا أبطالنا حق قدرهم كما تفعله الأمم الأخرى التي تصنع لنفسها أبطالاً ورموزاً ، بل وتدرس سيرة أبطال التأريخ وتقيم لهم ندوات ومؤتمرات وتنفق عليها مبالغ كبيرة لمعرفة أسباب النصر ودروسه ، وأسباب الهزيمة وآثارها كما فعلت اسرائيل بخصوص بطلنا حيث أقامت بمناسبة ذكرى حطين مؤتمراً كبيراً حول صلاح الدين الأيوبي .

 ولا يقال بأن هؤلاء الأبطال قد أشبعوا بحثاً ودراسة ؛ كلا ، فهؤلاء كلما حاولنا دراستهم وجدنا مجالات كثيرة وجوانب متعددة من حياتهم وسيرتهم لم يعط لها حقها من الدراسة والبحث ، إضافة إلى أن الدراسات التحليلية التكشيفية - إن توفرت وسائلها - ستفيد الأمة بنتائج رائعة ، ناهيك عن حقوق هؤلاء الأبطال على الأجيال اللاحقة في إحياء ذكراهم والاستهداء بسيرتهم ولا سيما في عصرنا الحاضر .

 وقد كان لكلية الإنسانيات بجامعة قطر دور تشكر عليه في إحياء الذكرى المئوية الثامنة لهذا البطل في مؤتمر عقد في عام 1993م ، حيث كلفت عدداً من الباحثين ، وكان لي شرف المساهمة فيها باختيار موضوع يتعلق به أشد التعلق ، وهو موضوع : ( من التوحيد إلى التحرير، ومن الاجتهاد إلى الجهاد ) وهو بلا شك من أهم الموضوعات في دراسة سيرة صلاح الدين الأيوبي ، إذ أنه يبين أسباب انتصاره ونجاحه.

 فقد عرف صلاح الدين من التجارب السابقة أنه مهما يبذل من جهد فإنه لا يجدي نفعاً إذا لم يقم ببناء الإنسان من جديد ، وإعادة الروح إليه ، وتشكيل عقليته على ضوء منهج الله تعالى ، فقد عرف الداء والدواء ، فلذلك كانت مهمته القصوى توحيد الأمة وتجميعها وجعلها صفاً واحداً كالبنيان المرصوص فكانت أولى خطواته توحيد راية المسلمين من خلال تجميعهم على خليفة واحد وإسقاط الخلافة الزائفة التي نشأت في مصر في ظل الدولة الباطنية العبيدية التي رفعت شعار الخلافة الفاطمية .

 ثم كانت الخطوة الثانية توحيد المسلمين فكرياً وسياسياً وإدارياً لكن هذه المهمة كانت من أصعب الأمور لذلك كان صلاح الدين الأيوبي فيها واقعياً جداً حيث كان همه الأول توحيد مصر والشام وجعلهما تحت راية واحدة ، ثم ضم العراق ، وبلاد الكورد ، وشبه الجزيرة العربية إليهما لتصبح كتلة واحدة قوية لها بعدها الاستراتيجي ، ثم توحيد الأمة .

 وقد علم صلاح الدين أن مهمة التوحيد لا تتحقق من فراغ وإنما لا بد أن يكون معها قاعة شعبية تدعم هذا التوجه وتضحي في سبيلها بكل غال ونفيس ، ومن هنا كانت عنايته بالتعليم والتوعية ، ونشر المدارس العلمية بين الناس ، وإعداد أكبر قدر ممكن من طلبة العلوم ليصبحوا علماء يقومون بالتربية الصحيحة وتوجيه الأمة نحو الوحدة والرقي والحضارة ، فجاء ذلك مهمة أساسية في فكر صلاح الدين باعتباره أحد العناصر الأساسية التي صاغت الانتصار في الأمة الإسلامية .

 إن مما لا شك فيه أن أستاذه نور الدين محمود الزنكي هو الذي بدأ بمهمة إعادة المسلمين إلى دينهم للوقوقف أمام الزحف الصليبي الغادر ، وقام بعملية عظيمة للعودة إلى منابع الإسلام الأصيلة أي القرآن الكريم والسنة المطهرة ، والاجتهاد الصحيح فيهما ، وهيأ الأرضية المناسبة لها لتسهيل مهمة الذين جاؤوا من بعده ... لكن الذي لا يمكن إنكاره هو أن هذه  المنجزات الرائعة كادت تنهار بمجرد موت نورالدين الزنكي لولا أن صلاح الدين الأيوبي حافظ عليها ، وأضاف إليها ما يكملها ويؤصلها ، وأقام بنيانها على تقوى من عند الله ، كما أن أهمية دور صلاح الدين الأيوبي تكمن في إعادة مصر والمغرب وإفريقيا إلى الشام وبغداد والعمق الإسلامي حيث أثبتت التجارب السابقة أن تماسك الجبهة الشامية المصرية المدعمة بالعمق في العراق والجزيرة ضرورة للوقوف في وجه أي غزو خارجي ، أو القضاء عليه .

 إن صلاح الدين الأيوبي قد كتب عنه الكثيرون ممن عاصروه أو جاؤوا بعده ، من المسلمين ومن غيرهم الذين لا يمكن عدهم في هذه العجالة فقد تكلموا عن سيرته وانتصاراته العسكرية وأسبابها المادية ، وعن إدارته ومنجزاته في الميادين المختلفة ، وفي علاقاته الاجتماعية ، وغيرها من الجوانب المالية والعمرانية والتعليمية .

 غير أن هذا البحث يحاول الكشف عن جانب قد يخفى على البعض وهو الجانب المعنوي ، ويوضح أن وراءه هذه الانتصارات التي لم تتحقق لكثير من القادة قبل صلاح الدين الأيوبي وبعد أسباباً مؤثرة يعود إليها الفضل في صياغة تلك الانتصارات بعد توفيق الله تعالى ، وهي العناية القصوى بتوحيد الأمة من خلال إعادتها إلى الينبوع الأصلي ، وإعادة الروح إليها ، وطاقاتها المفجرة التي أهملها الآخرون ، إضافة إلى التوعية التي هي الأساس في بناء الأمة ، وهي المقدمة في أيّ خطوة يخطوها الفرد أو المجتمع (عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ ) [1].

 ونحن هنا في هذه العجالة نتحدث عن هذين الجانبين ، وأسأل الله تعالى أن يكتب لي التوفيق فيما أصبو إليه ، ومستغيثاً به تعالى أن يحقق الأهداف والغايات المرجوة من هذا البحث ، ومتضرعاً إليه سبحانه أن يجعل أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم ، إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير.

 

** (بحث مقدم في مؤتمر قمة العلماء المسلمين 2022 حول القدس والأقصى، كوالالمبور – ماليزيا - تحت عنوان: "الوحدة أساس لتحرير فلسطين)

 كتبه الفقير إلى الله

علي محيى الدين القره داغي

الدوحة 1993


([1])  سورة الرحمن / الآية2- 3





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع