الرابط المختصر :
في ظلال مقاصد التوحيد (من مظاهر العدل الإلهي في اليوم الآخر)
بقلم: د. انجوغو امباكي صمب - عضو الاتحاد
إن الله هو ملك يوم الدين، وهو الذي يقضي فيه بين عباده ويحاسبهم على أعمالهم ويجازيهم بها، ومن حكمته البالغة وحجته القاطعة أن يري عباده مظاهر جليلة من عدله المطلق، حتى يعترفوا بأنفسهم أن الله لم يظلم منهم أحدا شيئا، قال تعالى { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }[1]، قال القرطبي رحمه لله تعالى (( ولا حاجة به عز وجل إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك فتشهد الكتب، إلزاما للحجة))[2]، وفي الحديث القدسي قوله تعالى فيما يرويه عنه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))[3]، وفي الحديث سعة رحمة الله تعالى لعباده المؤمنين وتوفيقه لهم للإيمان والعمل الصالح، وثوابه لهم على ذلك، وكمال عدله سبحانه وتعالى وعدم ظلمه لأحد من عباده، قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله في مقدمة الرسالة ((وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه، فهدى من وفقه بفضله ، وأضل من خذله بعدله ويسر المؤمنين لليسرى وشرح صدورهم للذكرى))[4].
ومن أهم مظاهر العدل الإلهي في اليوم الآخر:
- عرض كتب الأعمال
فمن مشاهد القيامة ومواقفه الحرجة عرض الكتب والصحائف التي كتب فيها الأعمال، قال تعالى{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[5]، قال تعالى { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا }[6]، ويأخذ كل إنسان كتابه ويقرئه بنفسه، فيستبشر المحسنون بما وجدوا في كتبهم من الأعمال الصالحات، ويدعون أهل الموقف إلى مشاهدة ما فيها لحسنها وصلاحها، وأما المسيؤون فيندمون ويتحسرون لما يجدون في كتبهم وصحائفهم من الأعمال السيئة، قال تعالى{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا }[7].
- وزن الأعمال
وإذا رأوا أعمالهم وأقروا بها وزنت لهم ليعلموا ما يجزون بها وما ترجح منها، قال تعالى {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[8]، وقال تعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }[9]، قال الخازن رحمه الله ((قوله عزّ وجلّ {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ } : ((أي ذوات العدل، وصفها بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل...، وقيل المراد بالميزان العدل والقسط بينهم في الأعمال، ...، والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله سبحانه وتعالى يضع الموازين الحقيقية ويزن بها أعمال العباد))[10].
- إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين
وإذا ورد أهل الكفر النار، وكذلك من رجحت سيئاتهم على حسناتهم ممن شاء الله دخولهم النار، أنكروا صدور تلك السيئات منهم، فتشهد عليهم جوارحهم وجلودهم بإذن الله تعالى بما كانوا يعملون، قال تعالى { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[11]، 4- لا يؤخذ أحد بجريرة غيره.
وكل إنسان مسؤول عن نفسه و مؤاخذ بما كسبت يداه، ولا يؤاخذ أحد بجريرة غيره، عدوا كان أو صديقا، قريبا كان أو بعيدا، قال تعالى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[12]، وقوله {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}: (( كل عليه وزر نفسه، وإن كان أحد قد تسبب في ضلال غيره ووزره، فإن عليه وزر التسبب من غير أن ينقص من وزر المباشر شيء ))[13].
[1] سورة الزمر الآيتان 69 ، 70
[2] الجامع لأحكام القرآن، 15 / 281
[3] صحيح مسلم، 4/1994، برقم ( 2577 )
[4] الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، تأليف صالح بن عبد السميع الآبي الأزهري، ص 4 ،الناشر : المكتبة الثقافية - بيروت
[6] سورة الإسراء، الآية 71
[7] سورة الإنشقاق ، الآيات 7 ـ 15
[8] سورة الأعراف، الآية 8
[9] سورة الأنبياء، الآية 47
[10] لباب التأويل في معاني التنزيل، 3/227
[11] سورة فصلت، الآيات، 19 ، 20 ، 21
[12] سورة الأنعام، الآية 164
[13] تيسير الكريم الرحمن، ص 282