"بين الصيحة والبطحة"
بقلم: أ. د. إبراهيم أبو محمد
عضو مجلس أمناء الاتحاد والمفتي العام للقارة الأسترالية
• ربما تلتقي بواحد من البشر لأول مرة وأنت لا تعرفه ولا يعرفك فتعجبك هيئته ويقول فتسمع لقوله وطبعا لم يسبق لك أن قابلته أو رأيته من قبل، لكن حاسة الاستشعار عنده شديدة الحذر، فكل نقد يصدر منك عن أي شيء يحمله على نفسه، ويؤوله تأويلا يتصل به هو، ولو كنت تتحدث عن مباراة كرة قدم، أو عن عربة قطار خرجت عن القضبان فأحدثت خللا وشللا ، أو عن هرة خفيفة الظل سريعة الهروب، أو حتى عن عنزة شردت من القطيع.
• هذه الحالة النفسية المريضة صورها القرآن الكريم بقوله " {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} ﴿المنافقون: ٤﴾
• المثل العامي يرمز لهذه الحالة بكلمة "بطحة" ودلالتها في اللغة تعني " ورما" أو "جرحا في الجبهة أو الرأس نتيجة تصادم أو مشاجرة، أو سقوط.
• وارتباط المثل بهذه الحالة المرضية يعني بأن صاحبنا على رأسه بطحة، فكلما شعر بشيء ولو من بعيد يتحسس رأسه، ويضرب هذا المثل لمن يعاني من شيء معين يخفيه ولا يبديه.
• المشكلة الآن ليست في الصيحة، فلا أحد يصيح أو حتى يصرخ ، وإن كان الكل يعاني، المشكلة الآن في أنظمة منبطحة وعلى رأسها مآت البطحات وليست بطحة واحدة ، فالأنظمة السياسية إياها لم تعد تتحمل حتي الدعاء بصلاح الحال، فعندما تدعو الله بصلاح الحال يفسر هذا الأمر بأنك تقصد أن النظام فاسد ، ومن ثم فأنت منهم.
• وما بين خوف الصيحة والبطحة يحرم الوطن من كل رأي سديد، ومن كل توجيه رشيد ،
• وينسحق المواطن أيضا فلا تسمع له ركزا.
• فهل لا زالت تتذكر قوله تعالى "يحسبون كل صيحة عليهم}..؟
• قديما كان الناس يرددون حكمة معروفة تتحدث عن فضيلة الصمت فتقول" إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب. ..... طبعا مواقف إحقاق الحق وإبطال الباطل تقتضي القول الصريح، وإلا تحول المرء إلى شيطان أخرس.
• لكن المشكلة الأخرى الأكبر والأكثر خطورة ودلالة، هي أن الأنظمة المنبطحة لم تعد تعرف معنى المواطن الحر، بل لم تعد تحتمل حتى صمت المواطن.
• فإلى أي مدى قد وصل بنا الحال يا قوم...؟