البحث

التفاصيل

الاختلافُ الفقهي وأثرُه في التيسير على الحُجَّاج

الاختلافُ الفقهي وأثرُه في التيسير على الحُجَّاج

بقلم: د. خالد حنفي

 

قضتْ حكمة الله عز وجل أن تكون الأحكام الشرعية أصولاً وفروعاً، الأصول لا تقبل الاختلاف ولا يرِد عليها التغيُّر بتغيِّر الأزمان والأحوال، أما الفروع فهي دائرة الأحكام المرنة التي تقبل الاجتهاد ووقع فيها الاختلاف وتشكَّلت منها تلك الثروة الفقهية العظيمة التي يزخر بها تراثنا الفقهي، والاختلاف مقصود في الفروع للشارع الحكيم؛ لتُناسب الشريعة الناسَ في كل زمان ومكان، وتتسع دائرة الاجتهاد أمام المجتهدين، ولو شاء الله أن تكون كل الأحكام قطعية لكانت.

ومن العبادات التي تتجلى فيها حكمة الاختلاف في الفروع ومقاصده فريضة الحج، ولنتأمل معاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" ، وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، والذي أفهمه منه ـــــ والعلم عند الله ــــ أن قدر المحاكاة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أكبر وأدق وأطلب في الصلاة بخلاف الحج؛ وذلك ليسره وإمكانه في الصلاة وعكسه في الحج، وكأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استشرف بنور الوحي أو بفراسة النبوة ما سيحدث في قابل الأزمان من تضاعف أعداد الحجيج على نحو يستحيل معه محاكاة حج النبي صلى الله عليه وسلم، دون الوقوف على ما هو تعبدي محض لا يقبل الاجتهاد وما هو معلل مقصد يقبله، أو دون تفريق بين ما هو ركن أو واجب أو سنة مؤكة أو مستحبة، فلو أن ثلاثة ملايين حاج طافوا طواف الإفاضة يوم النحر كما طاف النبي صلى الله عليه وسلم لشق ذلك عليهم؛ لهذا كان وقت طواف الإفاضة واسع وغير مقيد بوقت النحر، فمن الفقهاء من حدَّه بأيام التشريق، ومنهم من وسعه إلى نهاية ذي الحجة، ومنهم من وسَّعه إلى نهاية العام بشرط عدم مغادرة مكة.

لقد شرط الأصوليون في المفتي أن يكون على علمٍ باختلاف العلماء؛ لأنه إن أفتى الناس بمذهبه الذي يعرفه فقط أوقعهم في الحرج والمشقة؛ لهذا يجب على من يتصدر للإفتاء في الحج أن يكون واسع الاطلاع على المذاهب الفقهية كلها، واجتهادات الصحابة والتابعين وكذا اجتهادات المعاصرين، لئلا يُضيِّق على الناس تضييقاً يضر بأمنهم وسلامتهم، وصورة الإسلام الحضارية العالمية. ولست أدعو هنا الأئمة أو الناس إلى تتبع رخص الفقهاء وتيسيراتهم وانتقائها في الحج أو في غيره، إنما أدعو إلى تثقيف المفتين بالاجتهادات والآراء غير المشهورة التي قد تكون في بعض الحالات الفردية أو الجماعية دواءً ناجعاً لإشكال كبير يقع للناس في الحج، وقد يعرِّض حياتهم أو حياة غيرهم للخطر عند التزاحم والتدافع.

ومما يتعين في ذلك ترك الناس الذين يأتون من بلدانهم باختيارات فقهية تبعاً لمذاهب بلدانهم، وعدم حملهم على المذهب السائد في بلد الحج؛ فمِنْ شأن ترك الناس ومذاهبهم التوسعة عليهم وإفساح الطريق لإخوانهم في نُسك هنا، وإخوانهم يفسحون لهم في نسك هناك، كالحجاج الأتراك الذين لا يبيتون بمنى تبعا لرأي أبي حنيفة الذي يقول بسنيته ولا يقول بوجوبه تبعا للجمهور، وهذا معناه إخلاء مساحة كبيرة في منى لمن يعمل بوجوب المبيت بها.

"يرى شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، ومن وافقهم أن الوضوء سنة للطواف وليس شرطا لصحته، وعليه فيمكن للطائف أن يُكمل طوافه إذا فقد وضوءه دون حرج أو إعادة"

لقد بذلتْ المملكة العربية السعودية جهداً كبيراً في تنظيم الحج والتيسير على الناس، لكن هذا الجهد ما لم يواكبه جهد مماثل في الفتوى وفقه الحج، فسيبقى الحرج والعسر في الحركة وأداء النسك، خاصة وقطاع كبير من الحجاج كبارُ سنٍ ومرضى وأصحاب أعذار، ومساحات الاجتهاد في أنساك الحج كثيرة ويمكن إعمال وتفعيل الاجتهاد بشِّقَيْه: الإنشائي والانتقائي فيه.

ولابد أن يكون الرأي الفقهي المفتَى به معتبراً صحيح الدليل حتى وإن كان مرجوحاً، ولا يصح بحال القول بشذوذ الأقوال والإفتاء بها بحجة أن فلاناً قال بها قديماً أو حديثاً؛ فإن القول بدليله لا بقائله، وكلام العلماء يُحتجّ له ولا يُحتج به. وكم من آراء قال بها نفر قليل من العلماء مخالفين بها الأكثرية لكنها كانت أقوى دليلاً وأقرب إلى مقاصد الشرع من غيرها، وقد يظهر ذلك في زماننا أكثر من الأزمنة التي مضت، فالرأي المرجوح في مقابل الراجح الأولى تركه في وقت الرخاء واليسر، لكنَّ واجب الوقت أن نعود إليه وأن نُفعِّله في وقت الشدة والعسر.

وسأذكر هنا بإيجاز يناسب المقام بعض التطبيقات والنماذج الفقهية لآراء قيل إنها مرجوحة والجمهور على خلافها، لكنْ قوىَ دليلها، وهي ترفع الحرج عن شريحة كبيرة من الناس في الحج اليوم.

أولاً: إحرام القادم بالطائرة أو الباخرة

يصل أغلب حجاج العالم اليوم بالطائرات إلى مكة المكرمة ويحرمون بالمحاذاة للميقات جوا، أو يُحرمون من مطار الإقلاع قبل صعود الطائرة وهذا الرأى قال به جمهور الفقهاء المعاصرين، وانتهت إليه أغلب المجامع الفقهية، لكنه عملياً فيه تعسير على الناس خاصة القادمين من سفر بعيد أو في طقس شديد البرودة، ولنا أن نتخيل خمس مئة حاج في طائرة يريدون الوضوء أو صلاة سنة الإحرام والإحرام في لحظة محددة يعلمهم بها قائد الطائرة. لهذا فإن الرأى المقابل لهذا الرأى هو أن ميقات القادم بالطائرة أو الباخرة هو مطار أو ميناء جدة، فيُحرم بعد هبوط الطائرة أو استقرار الباخرة وقد قال بهذا الرأى عدد من الفقهاء منهم: الشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ عطية صقر ومن وافقهم وهو الذي أراه راجحاً؛ لأن تصور المحاذاة المكانية جوا أو بحرا مع سرعة الطائرة عَسِر، والإحرام قبل صعود الطائرة إحرام في غير ميقات. وما أنشُده هو اعتبار هذا الرأي وتصحيح العمل به عند من يحتاج إليه على الأقل، ما دام قد صح دليله وصدر عمن هو أهل للاجتهاد.

ثانياً: سنية الوضوء للطواف

يرى جُمهور الفقهاء أن الوضوء شرطٌ لصحة الطواف، وعليه فمن نقض وضوءه أثناء الطواف عليه أن يتوضأ ويبدأ الطواف من جديد، ومن الفقهاء من قال: يستأنف من حيث فَقَدَ الوضوء مع عدم احتساب الشوط الأخير، ومقابل هذا الرأي يرى شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، ومن وافقهم أن الوضوء سنة للطواف وليس شرطا لصحته، وعليه فيمكن للطائف أن يُكمل طوافه إذا فقد وضوءه دون حرج أو إعادة. والواقع أن هذا الرأي أقوى دليلاً من قول الجمهور، بل إن رأى الجمهور لا دليل عليه سوى حديث: "الطواف بالبيت صلاة" وهو موقوف على ابن عباس، والطواف يختلف عن الصلاة في أمور كثيرة كما هو معلوم، وقد سمعتُ الشيخ ابن عثيمين يرجح رأي ابن تيمية بكل حماسٍ، وينكر على من يفتي برأي الجمهور الذي لم ير له دليلا صريحاً صحيحاً. ولو صح العمل برأي الجمهور، لصح عند قلة الزحام ويُسْر الوضوء، أما اليوم فإنَّ تجديد الوضوء في الحرم معضلة كبرى تحتاج لجهد ووقت وخطة في ظل الزحام المعروف. وقد حدثني أحد الأئمة الأوربيين أنه امرأة في حمْلته فقدتْ وضوءها في الشوط الأخير من طواف الوداع، واستفتي كل من يعرف من أهل العلم في فتوى تبيح لها إكمال طوافها دون وضوء، حيث إن إعادة الوضوء والطواف قد ينبني عليها ضياع الطائرة ومفارقة الرفقة فلم يُفتِ له بالجواز أحد. قلت: فمتى يجب العمل بمثل هذا الرأي إن لم يصح في مثل تلك الحالات؟

ثالثاً: رمي الجمرات قبل الزوال

يعتبر نسك رمي الجمرات من أهم الأنساك التي يظهر فيها التدافع والزحام، وأغلب حوادث الحج في السنوات البعيدة الماضية وقعت عند الجمرات، ورغم تنظيم منطقة الجمرات وتعدد طوابقها إلا أن تضييق وقت الرمي يُقلل من أثر وقيمة هذا التنظيم، ويرى جمهور الفقهاء أن وقت الرمي فى أيام التشريق يبدأ من منتصف النهار (الزوال) وحتى غروب الشمس، وهى مساحة زمنية لا تستوعب أعداد الحجيج، حتى وإن قبلنا يتوسيع نهاية الوقت ليلا إلى منتصفه، فلن يتمكن الحجاج من الرمي فى هذا الوقت دون تدافع إلا بصعوبة ومشقة، وتعريض أرواحهم للخطر سيما في هذا الطقس والعدد، وارتفاع نسبة المرضى وكبار السن بين الحجاج.

لهذا أتقدم بمقترحين لحل الإشكال من الناحية الفقهية:

الأول: التوسيع فى التوكيل والنيابة فى الرمي، خاصة بحق النساء والمرضى وأصحاب الأعذار، وقد قال بجواز التوكيل في الرمي لعذر أغلب الفقهاء.

الثاني: توسيع وقت الرمي قبل الزوال في أيام التشريق ليبدأ من فجر اليوم الأول إلى فجر اليوم الثاني على مدار الأربع والعشرين ساعة في أيام التشريق وذلك عملاً برأي فقيه المناسك سيدنا عطاء بن أبي رباح، وطاوس من فقهاء السلف وعدد من الفقهاء المعاصرين، منهم علماء من المملكة السعودية، خلافاً لجمهور الفقهاء الذين قالوا: إن وقت الرمي في أيام التشريق يبدأ زوالاً وينتهي بغروب الشمس، وإنني أرجح هذا الرأي وأدعو إلى العمل به تماما كرأي الجمهور المخالف له وذلك لما يلي:

1- يتمسك الجمهور بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ رمى عند الزوال في أيام التشريق، ولم يُنقل أنه جَوَّز الرمي قبله، ولا ثبت ذلك عن الصحابة. قلتُ: مجرد رمي النبي صلى الله عليه وسلم زوالاً ليس دليلا على عدم صحة الرمي قبله، فالراجح من أقوال الأصوليين فى الترك النبوى المجرد الذي لم يصحب بنهى قولى، أنه يدل فقط على مجرد الترك. ولا يعنى حرمة الفعل الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الرمي قبل الزوال.

2- من تناقضات المشهد الفقهي أن جمهور الفقهاء جوّزوا تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر رغم كونه ركن من أركان الحج، ولم يوسعوا وقت الرمي رغم كونه واجب ينجبر عند تركه بدم، فكيف فهموا من رمي النبي صلى الله عليه وسلم الجمرات وهي واجبة زوالاً التأقيت وعدم جواز الرمي قبل الزوال، بينما فهموا التوسيع في وقت طواف الإفاضة الركن، رغم فعل النبي صلى الله عليه وسلم له في وقت محدد وهو يوم النحر! ولعل السبب في ذلك أنهم لم يكونوا بحاجة للنظر في المسألة بحدود زمانهم وحالهم، حيث العدد المحدود للحجيج مهما كان كثيرا بالنظر لزمامنا.

3- قياس توسيع وقت الرمي في أيام التشريق على الرمي في يوم النحر؛ حيث يبدأ من منتصف ليلة النحر أو من فجرها، وإنما وسع الشارع وقت الرمي يوم النحر لكثرة الأعمال فيه من رمي وذبح هدى وحلق أو تقصير وطواف وسعي، بينما في أيام التشريق لا عمل سوى الرمي. والحرج والمشقة وزيادة أعداد الناس اليوم أسباب لتوسيع الوقت تعادل كثرة الأعمال في يوم النحر.

رابعاً: اقتصار المتمتع على سعي واحد

مِنىً مكان محدود المعالم يضيق عادة بالحجيج ويفترش الناس شوارعها، وذلك لأن جمهور الفقهاء يرى أنها من واجبات الحج، ومقابل هذا الرأي القول بسنية المبيت بمنى وأن تارك المبيت بها لا شيء عليه وهو مذهب أبي حنيفة

يتجه أغلب الحجيج إلى اختيار نسك التمتع وتفضيله على نسكي الإفراد والقِران؛ لأنه يجمع بين العمرة والحج، ويتمتعون فيه بالفترة التي يصير المحرم فيها حلالاً حتى يوم التروية، ويأخذ معظم الحجيج المتمتعين برأي جمهور الفقهاء القائلين بوجوب سعيين على المتمتع، سعي للعمرة وسعي للحج، وإيجاب سعيين على المتمتع فيه مشقة وفيه زحام للحرم أيضا، وقد كتب الدكتور/ سعود الفنيسان بحثاً قيماً انتهى فيه إلى ترجيح إيجاب سعيٍ واحدٍ على المتمتع، والاكتفاء بسعي العمرة ثم قال وهذا الذي يجب أن يُفتي به اليوم لكثرة الزحام، وممن قال بهذا الرأي: ابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ونص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله، وهو أحد القولين للشافعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ومن أهم أدلتهم: رواية جابر رضي الله عنه في حديثه المتفق عليه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم: " لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول … فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج، وكفانا طوافنا الأول بين الصفا والمروة".

ومعلوم أن كل من ساق الهدي لم يُحل وبقي قارناً، ومن لم يكن معه هدي حل من عمرته أو حجه فجملة (لم يطف النبي ولا أصحابه) وفيها النفي الجازم لكل المتمتعين والقارنين، وجملة (وكفانا طوافنا الأول..) نص على السعي الواحد للمتمتع، لا سيما وأن جابر بن عبد الله وجميع أمهات المؤمنين –رضي الله عنهم-لم يكن معهم هدي فحلوا. وجابر يتحدث عن نفسه وعمن عمل مثل عمله.

خامساً: سُنية المبيت بمنى

مِنىً مكان محدود المعالم يضيق عادة بالحجيج ويفترش الناس شوارعها، وذلك لأن جمهور الفقهاء يرى أنها من واجبات الحج، ومقابل هذا الرأي القول بسنية المبيت بمنى وأن تارك المبيت بها لا شيء عليه وهو مذهب أبي حنيفة، والحسن، وأحد قولي الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب ابن حزم الظاهري. والأخذ بهذا الرأي يوسع مِنى على من يريد المبيت بها، ويخفف عن النساء وكبار السن وأصحاب الأعذار، ويوضح أن الاختيار الفقهي يمكن أو يوسع الزمان والمكان وأن يخفف الزحام، ويدعم التنظيم وسلامة وأمن الحجيج.

وأدلة هذا الرأي قوية متجهة ومنها: إذن النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، ولو كان المبيت واجباً لما أذن له إلى غير بدل. كذلك ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (إذا رميت الجمار فبت حيث شئت). وما دامت المسألة اجتهادية خلافية فلا إنكار في مسائل الخلاف كما هو مقرر معلوم. نسأل الله تعالى أن يتقبل من الحجيج حجهم وأن يغفر ذنبهم وأن يردهم إلى أوطانهم سالمين آمنين غانمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. خالد حنفي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأستاذ جامعي متخصص في أصول الفقه، عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية، ورئيس لجنة الفتوى بألمانيا





السابق
مقاصد الحج عظيمة “افْعَـــلْ وَلاَ حَـــــرَجَ”

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع