بركة دعاء إبراهيم - عليه السلام- وأثرها في بيت الله العتيق
بقلم: د. علي محمد الصلابي
بيّن الله تعالى بعض الخصائص التي خصَّ بها أرض الحرم، ببركة دعوات إبراهيم عليه السلام، ويبدو أنّها من الدعوات التي دها بها عندما وضع فيها ولده إسماعيل مع أمه وتركهما وانصرف عليه الصلاة والسلام، وقد حقق الله تعالى دعوات إبراهيم عليه السلام، فجعل بيته مكاناً مباركاً، آمنا، تهوي إليه أفئدة الناس حباً واشتياقاً له.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}:
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} أي: واذكر يا محمد صلّى الله عليه وسلّم، إذ قال إبراهيم في دعائه.
وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا} أي: الوادي المهجور الخالي الذي ليس فيه زرع ولا ماء ولا بناء.
وقوله: {بَلَدًا}: "البلد" اسم لكل مكان مسكون، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
وقوله: {آَمِنًا} أي: ذا أمن، يأمن أهله فيه من القحط والخسف والقتل والسّلب والنّهب والرعب والخوف والمسخ والجوع ونحو ذلك.
وقد استجاب الله دعاء إبراهيم فجعل مكة بلداً آمناً، وهذا في الأعم الأغلب على مرّ العصور وكرّ الدهور، ولا ينافي ذلك ما وقع في مكة من حوادث قليلة تعكّر هذا الأمن، والقاعدة تبقى قاعدة، وإن وُجد لها شواذ؛ لأن الحكم للأعمّ الأغلب، فإن مكة - شرّفها الله- كانت آمنة في غالب الأزمان التي مرَّت عليها، هذا من الناحية القدرية، وأما من الناحية الشرعية، فإن الله أوجب علينا أن نحفظ الأمن في مكة ولا نُفسده ونعتني به أكثر مما نعتني به في الأماكن الأخرى. [تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص219]
ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوة، فإن أمن البلاد والسبل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة، ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن من دونها وهو يستتبع التعمير والإقبال على ما ينفع، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما اختاره لذلك البلد من كونه منبع الإسلام. [منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود، ص94].
وقوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ} أي: أعط ساكنيه والمقيمين فيه.
وقوله: {مِنَ الثَّمَرَاتِ}: والثمرات ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له.. وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية وتوفر أسباب الإقامة حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه؛ لأنّه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنفية وخص إبراهيم عليه السلام المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإيمان لساكنيه. [تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 1/715-716]
وقد فعل الله سبحانه ذلك، فالثمار تأتي إلى مكة من مختلف بقاع الأرض القريبة والبعيدة، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ]القصص:57[. [التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 1/193]
وقوله: {مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}: والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، و{وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}: هو يوم القيامة وسُمي آخراً؛ لأنّه لا يوم بعده، [قصص القرآن، محمد بن صالح العثيمين، ص68] أي: ارزق المؤمنين بالله واليوم الآخر خاصة؛ ليستعينوا بالرزق على طاعة الله. [تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص219]
ولكن الله تعالى قدّر أن يكون الرزق في الدنيا لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، كما في قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} ]الإسراء:20[، ولهذا قال الله تعالى تعقيباً على دعوة إبراهيم عليه السّلام. [التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 1/193]
قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}:
{قَالَ وَمَنْ كَفَرَ}: القائل هو الله سبحانه وتعالى، فأجاب الله تعالى دعاءه يعني: وأرزق من كفر أيضاً فرزق الله شامل للمؤمن والكافر، بل للإنسان والحيوان كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} ]هود:6[، وأنت ترى بعض الخشاش في الأرض ما حوله شيء، ولكن الله ييسر الرزق يجلب إليه من حيث لا يشعر ولا يحتسب ويذكر في هذه الأمور قصص غريبة، ويشاهد بعض الحيوانات الصغيرة الصماء العمياء يجلب الله لها رزقاً كلما احتاجت إلى ذلك، فتأكله والله على كل شيء قدير. [قصص القرآن، محمد بن صالح العثيمين، ص71]
وقوله: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} ومهما كان هذا الرزق فهو في الحقيقة شيء يسير وقليل لأنه زائل وفانٍ، بل الدنيا كلها لو حصلت لشخص فهي قليلة كما قال تعالى: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} ]النساء:77[. [تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص220].
وقوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} أي: ألجئه وأسوقه، و{إِلَى عَذَابِ النَّارِ} أي: الذي لا محيص عنه ولا منجى له منه وهذا جزاء وفاقاً على كفره، و{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع الذي يصير إليه.
- وفي هذه الآية من الفوائد:
- أنّه لا غنى للإنسان عن دعاء الله تعالى، مهما كانت مرتبته.
- أنّ الدعاء سبب في حصول المقصود.
- رأفة إبراهيم الخليل - عليه السلام - بمن يؤمّ البيت الحرام.
- احتياطه في الدعاء لما طلب أن يكون الرزق لمن آمن بالله واليوم الآخر.
- إن الله يرزق المؤمن والكافر.
- وفيها: أنه لما كانت الإمامة نعمة دينية استثنى الله الظالمين منها؛ لأنّهم لا يستحقون هذا الشرف، أما الرزق فنعمة دنيوية، فأعطاه الله المسلم والكافر، ولم يستثنى الكافر منه؛ لأنّ متاع الدنيا قليل، ولا يساوي عند الله جناح بعوضة، فلذلك يعطيه من يحبّ ومن لا يحبّ. [تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص220].
المراجع:
- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
- تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور.
- تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد.
- قصص القرآن الكريم، محمد بن صالح العثيمين.
- قصص القرآن، محمد بن صالح العثيمين.
- منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود.